كلنا نقرأ عن الإمام علي (عليه السلام) بأنه ثابت الموقف لا تتزحزح مبادئه ولا يُجامل ولا يُداهن فيها تحت ضغط الظروف، وهو المستعد لقبول الحق ولو كان على نفسه، وهو الإنسان الذي يمنع نفسه عن رغبة فيها كسب ذاتي له، وتتوازن وتتماثل محددات السلوكيات عنده سراً وجهراً وبديهي أن المبادئ مهما سمت، وزخرت بجلائل المزايا والخلال، فإنها لا تحقّق أماني الأمة وآمالها، ولا تفيء عليها بالخير المأمول، إلا إذا اعتنقها صاحبها وحرص على حمايتها وتنفيذها في مختلف مجالات الحياة، وإلّا كانت عديمة الجدوى والنفع.
لذلك كان الثبات على المبدأ الحق من أقدس واجبات الأمة وفروضها الحتمية للشخصية الحاكمة، وإزاء ذلك علينا أن نذكر مجموعة من مصاديق الثبات على المبدأ في الفكر العلوي:
أولاً: كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على سر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ومثاليته في الثبات على المبدأ والاعتصام به، إذ عُرضت عليه الخلافة مشروطةً بكتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فأبى مُعتداً بمبدئه السامي، ورأيه الأصيل قائلاً: «بل على كتاب اللّه، وسنة رسوله، واجتهاد رأيي». فبالرغم من تقاتل الناس على منصب الحاكم واستطاعتهم إعطاء وتقديم تنازلات ـ ولو كاذبة ـ لتمشية الأمر واعتلاء سدة الحكم إلا إننا لم نجد ذلك في أدبيات الأمام علي(عليه السلام).
ثانياً: ألحّ عليه نفر من خاصّته ومواليه أن يستميل من أغوتهم زخارف الأطماع فسئموا عدل الإمام (عليه السلام) ومساواته، واستهواهم إغراء معاوية ونواله الرخيص فقالوا: «يا أمير المؤمنين، إعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن تخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية. فقال (عليه السلام) لهم وهو يعرب عن ثباته، وتمسّكه بدستور الإسلام، وترفّعه عن الوسائل الاستغلالية الآثمة: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟! لا واللّه ما أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم، واللّه لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنّما هي أموالهم.
ثالثاً: لما بويع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»، بلغه أن معاوية قد توقّف عن إظهار البيعة له، وقال: إن أقرني على الشام وأعمالي التي ولّانيها عثمان بايعته.
فكتب إليه كتاباً يستقدمه فيه إلى المدينة، وبعد فراغه من كتابه جاء المغيرة إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن معاوية من قد عرفت، وقد ولَّاه الشام من قد كان قبلك، فولّه أنت كيما تتّسق عرى الأمور، ثم اعزله إن بدا لك.
وفي نص آخر: إن أردت أن يستقيم لك الأمر، فاستعمل طلحة بن عبيد الله على الكوفة، والزبير بن العوام على البصرة، وابعث معاوية بعهده على الشام.
وفي نص آخر: فابعث إليه بعهده، وألزمه طاعتك.
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه؟!
قال: لا.
قال: لا يسألني الله عزَّ وجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً) لكن أبعث إليه، وأدعوه إلى ما في يدي من الحق، فإن أجاب فرجل من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن أبى حاكمته إلى الله.
رابعاً: عندما طلب منه أخوه عقيل أن يزيد في عطائه من بيت المال، أحمى له حديدة وقرّبها منه، ومن أجل أن يُفهم أخاه أنّه يرفض الظلم والجور قال(عليه السلام): (والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً وأُجرُّ في الأغلال مصفّداً أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يُسرعُ إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها؟ ثم قال(عليه السلام)والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من بُرِّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم، و عاودني موكّدا، وكرّر علي القول مرددا، فأصغيت إليه سمعي، فظنَّ أنّي أبيعه ديني، وأتّبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئنُّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نارٍ سجّرها جبّارها لغضبه؟ أتئن من الأذى ولا أئن من لظى
و ساق كلامه (عليه السلام) إلى أن قال: و الله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل و قبح الزلل وبه نستعين.
خامساً: عن علي بن أبي رافع، قال: كنت على بيت مال علي بن أبي طالب عليه السلام و كاتبه، و كان في بيته عقد لؤلؤ كان أصابه يوم البصرة قال: فأرسلت إلى بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقالت لي: بلغني أن في بيت مال أمير المؤمنين عقد لؤلؤ و هو في يدك، وأنا أحب أن تعيرنيه أتجمّل به في أيّام عيد الأضحي، فأرسلت إليها و قلت: عارية مضمونة يا ابنة أمير المؤمنين؟ فقالت: نعم، عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيام، فدفعته إليها، و إنّ أمير المؤمنين رآها عليها فعرفه، فقال لها: من أين صار اليك هذا العقد؟ فقالت: استعرته من ابن أبي رافع خازن بيت مال أمير المؤمنين لأتزيّن به في العيد ثم أردّه، قال: فبعث إليَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فجئته، فقال: أتخون المسلمين يا ابن أبي رافع؟ فقلت له: معاذ الله أن أخون المسلمين، فقال: كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني و رضاهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين! إنّها ابنتك، و سألتني أن أعيرها إياه تتزيّن به، فأعرتها إيّاه عارية مضمونة مردودة، و ضمنته في مالي و عليّ أن أرده مسلماً إلى موضعه، فقال: ردّه من يومك و إيّاك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي، ثم أولى لابنتي لو كانت أخذت العقد علي غير عارية مضمونة مردودة لكانت اذن أول هاشمية قطعت يدها في سرقة، قال: فبلغ مقالته ابنته، فقالت له: يا أمير المؤمنين! أنا ابنتك و بضعة منك، فمن أحق بلبسه مني؟ فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): يا بنت علي بن أبي طالب! لا تذهبي بنفسك عن الحق، أكلُّ نساء المهاجرين تتزين في هذا العيد بمثل هذا؟ فقبضه منها ورددته إلى موضعه.
نشرت في الولاية العدد 135