الحوار في القرآن الكريم نبـيُّ الله نوح(عليه السلام) أنموذجاً

د. علي محمد عبد الحسين أبو شبع

كان نبي الله نوح(عليه السلام) يبتعد عن قومه المشركين الكافرين, ويذهب إلى الجبال ليعبد الله سبحانه وتعالى, وكان نوح(عليه السلام) كثير الشكر والحمد لله سبحانه وتعالى, وكان إذا لبس ثوباً أو أكل طعاماً أو شرب ماءً شكر الله سبحانه وتعالى, وكان لباسه الصوف ومسكنه الجبال ومأكله نبات الأرض.
وحينما أوحى الله سبحانه وتعالى إليه بتكلفة مهام الرسالة والنبوة نحو قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(نوح/1), شرع النبي نوح(ع) بدعوة قومه لعبادة الله سبحانه وتعالى وترك عبادة الأصنام, لكن دون جدوى.

وتمر القرون ونبي الله نوح(عليه السلام) يدعو قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد وترك عبادة الأصنام نحو قوله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(نوح/2), ينذرهم نبي الله نوح(عليه السلام) من غضب الله سبحانه وتعالى ليلاً ونهاراً دون أن يستجيبوا له نحو قوله تعالى: (أَنِ اعْبُدُوا الله وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)(نوح/3-6)، وتعاقبت الأجيال حتى وصل بهم الأمر إلى أن يأتي الأب بابنه ويوقفه أمام نبي الله نوح(عليه السلام) ويقول له: (يا بني إن بقيت بعدي إياك أن تطيع هذا المجنون!!), ويتمادون في كفرهم وشركهم, فكانوا كلما كلمهم نبي الله نوح(عليه السلام) وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ليخفوا فيها وجوههم مستكبرين ومستهزئين بنبي الله نوح(عليه السلام) وكلامه نحو قوله تعالى: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)(نوح/7), ولكن النبي(عليه السلام) ضل يذكرهم بالله سبحانه وتعالى وينذرهم عقابه نحو قوله تعالى: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)(نوح/8- 12), إذ يبين لهم نبي الله نوح(عليه السلام) يا قوم أنتم عشيرتي ويسوؤني ما يسوئكم, وإنني أنذركم عذاب الله سبحانه وتعالى وأن تعبدوه وحده, ولا تشركوا به شيئاً من أصنامكم وأطيعوني إني لكم ندير, وسيغفر الله لكم ذنوبكم إذا أطعتموه, وسيزيد في أعماركم ويبعد عنكم العذاب، وستدر عليكم السماء بالغيث والمطر وتعيشون في رخاء وطمأنينة، وستكون أرضكم جنات تشقها الأنهار. فلماذا لا تتقوا الله سبحانه وتعالى وتخافوا وانتم عائدون إليه؟ هل نسيتم كيف خلقكم من نطفة، ثم حولها إلى علقة فمضغة ثم عظاماً، ثم كسا العظام لحماً ليصبح خلقاً جديداً كاملاً ناطقاً عاقلاً؟! نحو قوله تعالى: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)(نوح/13-15), (مَا لَكُمْ…) استفهام إنكار أنكر عليهم استخفافهم بالله سبحانه وتعالى ورسالته إليهم وأعراضهم عن الخوف منه والرجاء فيه.
ويردف عليه من المعاني الثواني التقريع, والتوبيخ, والتجهيل. أما الاستفهام الثاني (أَلَمْ تَرَوْا) فهو استفهام تقرير. يقررهم النبي نوح(عليه السلام) بما يرونه من خلق الله سبحانه وتعالى سبع سماوات طباقا. ويردف عليه من المعاني الثانية توكيد الإنكار في الأول, والتذكير بجليل قدرة الله سبحانه وتعالى, وبديع صنعه في الكون. ويستمر معهم النبي(عليه السلام) قائلاً لهم ألا ترون السماء كيف خلقها الله سبع سماوات ورفعها دون عمد, وقد جعل فيها الأفلاك والنجوم والكواكب, وجعل لكم فيها قمراً منيراً تستضيئون بنوره في ليلكم في البر والبحر, وجعل الشمس ضياءً لكم في النهار؟ إن الله هو الذي خلقكم في الأرض كما خلق أباكم آدم وجعلكم رجالاً ونساءً وشعوباً وقبائل وهو الذي، يعيدكم إليها عند موتكم, وهو الذي يخرجكم منها يوم البعث للحساب، وقد جعل الله لكم الأرض مبسوطة وجعل فيها طرقاً واسعة ومختلفة لتسيروا في أوديتها وجبالها. إن هذه النعم كلها ألا تستوجب منكم عبادة الله وطاعته وعدم الشرك به واستغفاره والإنابة إليه؟! نحو قوله تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا والله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)(نوح/16-20), وأقام نوح(عليه السلام) في قومه وتذكرهم بعظمة الله ونعمته ليلاً ونهارا، وازدادوا كفراً وتمسكاً بأصنامهم. وذكر الأنصاري في موسوعته (تفسير القرآن الكريم) «أن قصة الأصنام التي ذكرها الله سبحانه وتعالى والتي كان يعبدها قوم نوح تعود إلى أسماء قوم صالحين مؤمنين كانوا قبل نوح فماتوا وحزن عليهم الناس, فجاء إبليس فاتخذ لهم صوراً ليأنسوا بها فأنسوا بها، فلما جاء الشتاء أدخلوهم البيوت فمضى ذلك القرن وجاء القرن الآخر فجاءهم إبليس وقال: إن هؤلاء آلهة كان آبائكم يعبدونها، فعبدوهم وضلَّ منهم الكثير»(قصص الانبياء 87)
وأما قصة السفينة: فتذكر العديد من الروايات المتواترة بأن القوم استمروا في شركهم وعدم إطاعة نبيهم وازدادوا تكبراً وتعنتاً, وأصبح كلامه لا يزيدهم إلا فراراً منه, بل كان بعضهم يضربونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون، وتمادوا في إيذائه وضُرب حتى بدت الدماء تسيل من وجهه, وصار لا يشعر بشيء مما صنع به، فيحمل ويرمى به على عتبة باب داره فاقداً للوعي!! ولما اشتد به البلاء والأذى قال أصحاب نوح وكان عددهم قليلاً: يا نبي الله لماذا لا تدعُ عليهم؟ (لماذا لا…) استفهام مجازي للطلب والتنبيه. وعند ذلك أقبل نبي الله نوح(عليه السلام) على الدعاء عليهم, فقال: رب إني مغلوبٌ فانتصر، رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً نحو قوله تعالى: (قال نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)(نوح/21-27), فأعقم الله أصلاب الرجال وأرحام النساء، فلبثوا أربعين سنة لا يولدلهم مولود وقحطوا في تلك السنين حتى هلكت أموالهم وأصابهم البلاء، فأقبل نوح(عليه السلام) ينذرهم ويحذرهم عذاب الله سبحانه وتعالى، وأن يستغفروه فهو الغفار، ولكنهم لم يهتدوا وظلوا في ضلالتهم، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح(عليه السلام) نحو قوله تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)(هود/37)، وأمره بغرس نوى التمر, فمر عليه قومه فجعلوا يضحكون ويسخرون منه, ويقولون: قد قعد غراساً!! فنبت وطال الغرس وأثمر فقطعه ونجره, فقالوا: قد قعد نجاراً!! ثم ألّفه فجعله سفينة, فمروا عليه وهم يضحكون ويسخرون قائلين: قد قعد ملاحاً في أرضٍ خالية!! فأجابهم نوح(ع) نحو قوله تعالى: (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)(هود/38)، وذكر الأنصاري في موسوعته لتفسير القرآن الكريم أن نوحاً(عليه السلام) فرغ منها في ثلاثين سنة, ثم أمر الله سبحانه وتعالى أن يحمل فيها من كل زوجين (اثنين)، وهم الأزواج الثمانية التي خرج بها آدم من الجنة ليكون معيشة لعقب نوح(عليه السلام) في الأرض كما عاش عقب آدم فيها, فإن الأرض ستغرق بما فيها إلا ما كان معه في السفينة. وكان الذين آمنوا معه من كل الدنيا ثمانين رجلاً, وكان نوح(عليه السلام) قد صنع السفينة في مسجد الكوفة. عموماً هذه القصة باختصار(بحار الانوار ج97/386
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا).

نشرت في الولاية العدد 136

مقالات ذات صله