قاشاني

_07F7747

فائق الشمري

لايزال ينبوع الاصالة يحتفظ بأريجه ويصب في نهر الذكريات والمشاهد العذبة.. وما زال أهل بانيقيا يتذكرون تراثهم ويجدون فيه صحة العقول وحديقة للعلم والابداع.
النجف من أهم الحواضر الاسلامية المقدسة بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهي اليوم جامعة دينية تربوية ضمّت بين أحضانها الحوزة العلمية الشريفة، وتسلمت مسؤولية تدريس علوم اهل البيت (عليهم السلام) وإحياء أمرهم ونشر مذهبهم، اضافة الى ريادتها التاريخية في الحفاظ على التراث الإسلامي وصونه من الضياع.
في مدينة الغري اول ما يستوقفك مشهد القبة الذهبية الخلاب الذي يزين سماء المدينة المقدسة، وحينما تدخل تلك الرحاب المقدسة للحرم الطاهر تطالعك الوان منمقات جدران الروضة الحيدرية.. فيدخلك هذا المنظر الى عالم من الالوان المزججة المنسقة بإتقان، إذ يطالعك لون الازورد والفيروزج ويأخذك الى اجواء ملكوتية بعيدا في سماء المدينة المقدسة.. فتطوف حول الحضرة المقدسة وتنزل مع حمامته المتجهة نحو باحة الصحن الشريف لتلتقط حبات البُرِّ المتناثر على الرخام الأبيض.
عالم زواره من ارجاء المعمورة، ترى فيه ما يشد نظرها ودهشتها.. فتذوب تلك النظرات مع أمنيات الرجاء بقبول الاعمال وقضاء الحوائج.
كل ما في الحرم المقدس لسيد الأوصياء جميل و رائع، ولكن للفن القاشاني فيه لمسة مميزة وسحر خاص، ألوانه.. خطوطه المتداخلة.. الدقة والانسجام بين كل مكوناته.. مفردات تحير الألباب وتثير في نفس المشاهد الكثير من الأسئلة على مر الزمان.
ان هذه الحرفة الفريدة هي حرفة عراقية خالصة كانت في العراق منذ عهد البابليين، واستمرت فيه حتى أخذت صبغتها الاسلامية الجديدة في مدينة كربلاء وانطلقت إلى باقي المدن المقدسة لتكون من معالم الامكنة المقدسة فيها.
يقوم بهذه المهنة ويمسك عنانها حرفيون مهَرة، لكونها تمثل تراثاً شيعياً إسلامياً نال مكانته على ايدي أساتذة أكفاء بهذا الفن لمهنة تكاد تكون خاصة بالاماكن المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية وغيرها من المدن المقدسة في العراق وخارجه.
هذا العالم الملون من الكاشي الكربلائي أو ما يطلق عليه بـ(القاشاني).. بلاطات من الفخار زجج أديمها بالالوان المختلفة وبزخارف غاية بالروعة والاتقان.. وفق ذوق خاص ينفذه صناع مهرة باشكال وتصاميم جميلة جداً وبسيطة في الوقت نفسه، ويتمثل فيها (السهل الممتنع) بوضوح.. وقد غلفت جدران الحرم المقدس بهذه البلاطات، وكتب على جبهاته الأمامية الآيات القرآنية بخط عربي وحروف جميلة متداخلة.
ومن مزايا هذه البلاطات تحمّلُها للظروف المناخية لمدة طويلة، وتشير الروايات التاريخية إلى ان الحرم المقدس غلف بها في عهد الشاه صفي.
وبمرور الزمن تكسر بعض هذه البلاطات واقتلع بعض آخر، فطرأ عليها الكثير من التغييرات بسبب الترميم والصيانة المستمرين، مما أفقدنا الكثير من التواريخ والمعالم التاريخية، ولم يبقَ منها اليوم إلا القليل كالموجود في إيوان العلماء، حيث كتبت قصيدة لـ(قوام الدين) يعود تاريخها إلى عام (1160هـ)، وهو تاريخ انتهاء تجديد القاشاني بخط كاتبها (كمال الدين حسين كلستانه).
فما أروع تلك الأنامل التي أبدعت وصممت تلك النقوش والزخارف والآيات التي زينت هذه الجدران العالية التي عانقت السماء منذ مئات السنين، واجتمعت في قطع مترابطة تعرف بالقاشاني أو(الكاشي الكربلائي).


 نشرت في الولاية العدد 86

مقالات ذات صله