أ.م.د. رزاق عبد الأمير الطيَّار
نعني بـ(فن التعامل مع الناس): عملية إنجاز التواصل الناجح بين فردين من أفراد البشر على الأقل أو مجموعة أفراد لتحقيق أهداف معينة، ويقصد بالتواصل معناه الأعم أي التوافق الإيجابي والاستمرار في إجراء فعل ما سواء أكان هذا الفعل قوليا(حديثا أو نقاشا معينا) أو عضليا أو عقليا .
وقلنا في حلقة سابقة إن تتبع أسس هذا الفن عند أمير المؤمنين عليه السلام يقدم لنا قواعد رصينة وآمنة، يمكن السير في هداها باطمئنان لأنها تحقق لنا الغايتين الدنيوية والأخروية وعرضنا في ذلك الجزء محورا واحدا من مهارات التعامل مع الناس وهي: مهارات الفهم والتواصل .
ونواصل الحديث في هذه الحلقة، فنتعرض للمحور الثاني من مهارات التعامل مع الناس وهي مهارات الجذب والتأثير، وهي مجموعة من المهارات التي يجب أن يتحلى بها الأفراد القياديون، ومن يتصدون للتعامل مع الناس بصورة مباشرة أكثر من غيرهم، وهذه المهارات تكفل لهم التأثير في المقابل، وجذب الآخر إلى ساحتهم لتحقق لهم النجاح في عملهم والتقدم في مؤسساتهم، منها:
أولا: الاهتمام بالآخرين و الإحساس الصادق بمشاعرهم
لقد كرم الله تعالى الإنسان بما هو إنسان؛ إذ قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(الإسراء: 70)، فرزقُ اللهِ يصلُ إلى المؤمن وغير المؤمنِ يجودُ عليهم المنَّانُ برزقه، ويهبهم من الطيبات، وقد حثنا دينُنا على التعامل مع الناس بوصفهم بشراً من خلق الله وأن نكرمهم لإنسانيتهم، فنهتم بهم، ونراعي مشاعرهم، ونواسيهم بصدق، وإذا أردنا أن نتلمس تلك المواساة والمساواة الصادقة فحسبنا بسيرة أمير المؤمنين مثالا: وهو يأمر مالكا الأشتر أن يرفق بالرعية قائلا: (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالخطأ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْل الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ الله مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِه)(نهج البلاغة: 3/84) ولا يدلك على معنى الرحمة والرفق بالرعية مثلُ هذا العهد الذي وثق به أمير المؤمنين ولاته يأمرهم بالقسط والمحبة الصادقة للرعية كلهم، لم يخص منهم المسلم دون سواه، فإن لم يكن مسلما فهو إنسان، مثلك تماما، وقد كرم الله تعالى بني آدم، فلا يحق لك أن تمتهن كرامته، وأي عدل أكثر من هذا؟ وأي كرامة يريدها الناس غير هذه؟
لم يقف عليٌّ عليه السلام عند التنظير بل كان في سيرته العطرة مثالا للشعور بهموم الرعية وحاجاتهم فقد (مَرَّ شَيْخٌ مَكْفُوفٌ كَبِيرٌ يَسْأَلُ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام مَا هَذَا فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرَانِيٌّ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام اسْتَعْمَلْتُمُوهُ حَتَّى إِذَا كَبِرَ وَعَجَزَ مَنَعْتُمُوهُ أَنْفِقُوا عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) (تهذيب الاحكام: الطوسي:6/292، وسائل الشيعة: 15/66) إنَّ دولة يرأسها عليٌّ عليه السلام يأمن فيها الفقراء، ويشبع بعدلها الجياع.
نعم لم يبتعد حبُّ الامام عليٍّ إلا عن قلوب غير الأسوياء والشذاذ من البشر، ممن أعمى الطمع والجشع والظلم قلوبهم، فلم يبصروا إخوانهم، ولم يستشعروا الرحمة للبشرية.
ان من يتصفح سيرة عليٍّ(عليه السلام) يجد في كل صفحة منها مواساة للفقراء، ورحمة بهم وحسبنا تلك الرسالة التي أنفذها لعثمان بن حنيف عامله على البصرة بعد أن نما إليه نبأ الوليمة التي أُعدت له، ومما جاء فيها:(أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ،(إلى أن يقول)، أَلا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلا وَإِنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ، (إلى أن يقول)، وَلَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَو الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ
وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ
أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلا أُشَارِكهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ …) (نهج البلاغة: 3/70، شرح نهج البلاغة:16/287 )
إني لأجد الكلمات عاجزةً عن وصف هذا الكتاب، الذي أنفذه عليٌّ إلى عامله، وشحنه بألوان العتاب المر، لأن عامله لم يواس الفقراء في بلده، ولم يتأس بسيرة خليفة الله في أرضه وحجته على عباده، ولنا أن نسأل: كيف لا يدخل حبُّ عليٍّ قلبَ كلِّ فقير وهو لسانهم والمدافع عنهم ؟ وكيف لا يدخل حبُّ الامام عليٍّ قلب كل إنسان وهو يشعر أنه يحترمه لكونه إنسانا، نظيره في الخلق ؟
ثانيا: الإقناع والمشاورة:
إذا أردت أن تجذب الآخرين إلى ساحتك فعليك أن تقنعهم برأيك، وإذا أردت ذلك فيمكن أن تبدأ معهم بالمشتركات، التي تتفقون عليها، فإنها تجنبك الخلاف، وتبعد كلمة (لا) عن ساحة النقاش، ثم يمكن استدراج الآخر إلى قول (نعم) إلى أن تصل به إلى ساحتك، فيقول بقولك. وهذه هي طريق سقراط الحكيم، ((إنَّ كلمة (لا) هي معضلة يصعب التغلب عليها فحين يقول الشخص (لا) لا يتراجع عنها بل يظل مصرا عليها، وحتى لو شعر فيما بعد أن (لا) هي الجواب الخاطئ؛ لأن كبرياءه تمنعه عن الاستسلام للرأي الآخر))( فن التعامل مع الناس: دايل كارنيغي: 91)، ومن يُجيدُ فن التعامل مع الناس عليه أن يحصل على أكبر قدر من الأجوبة الإيجابية من خصمه، ليكون مناخ النقاش كله ايجابيا، وتكون الغاية منه الوصول إلى الحقيقة.
وإذا أردنا أن نذكر مثالا لـلإقناع من سيرة الامام عليٍّ – والمُثـُلُ كثيرةٌ – فحسبنا بأوضحها، وهو حديث الجاثليق الذي قدم المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه واله يرأس مئة من كبار علماء النصارى، وقد أوفدهم ملك الروم لتحري أمر نبوة محمد صلى الله عليه واله، فقد أجاب الإمام عليٌّ عن مسائلهم المعقدة والمتشعبة بإجابات مقنعة لم يتمكن الجاثليق من ردها، وكان الامام عليٌّ(عليه السلام) يبدأ معه بالثوابت المشتركة التي يقرون بها، فيلزمهم بها، ثم يتسلسل معهم إلى أن يلزمهم بالحجة تلو الحجة، حتى أذعن لحججه الوفد كله فآمنوا لقوله، والحديث مشهورٌ وطويلٌ لا مجال لسرده(للاطلاع على حديث الجاثليق وتفاصيله ينظر:الكافي:1/129،التوحيد: الصدوق:182،286، الأمالي:الطوسي:218، بحار الأنوار: 10/54) .
أما المشاورة فكان عليه السلام يقول:(مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا)(نهج البلاغة:4/41، شرح نهج البلاغة: 18/382) ويقول عليه السلام:(مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَأ)(نهج البلاغة:4/42، شرح نهج البلاغة: 18/404)، فالمشاورة تقي الفرد من الخطأ؛ لأنه سيجمع لعقله مجموعة من عقول الرجال، فتصوِّب له ما خفي عنه، وتسدد رأيه، وأمر إمامنا عليه السلام مالكاً الأشتر بمشاورة العلماء قائلا له:(وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَك)( نهج البلاغة:3/87، شرح نهج البلاغة: 17/36 )، وفي الوقت نفسه أمره أن يُبعدَ من مجال مشورته مَنْ تَشحُّ نفسُهُ بالخير قائلا:(وَلا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ، وَلا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِالله))( نهج البلاغة:4/42، شرح نهج البلاغة: 18/404) وهكذا يربي الإمامُ عليٌّ(عليه السلام) ولاته وعماله على السخاء والجود وأن تكون مشاورتهم في أمور الرعية للعلماء والمختصين في كل مجال، وأن يكون المستشارون من الكِرَام لا من اللئام. وإذا كان القائد يتبع سبيل الإقناع والمشاورة فسيكون أكثر تأثيرا في أتباعه، ويستجيب الآخرون لقراراته، ويؤيدون مواقفه، لأنهم سيشعرون أنها قراراتهم، وهم شركاء فيها، وليست هي قرارات القائد والمدير وحده.
نشرت في مجلة الولاية 73