الابداع حيــاة اخــرى.. جميلــة

%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%a8%d8%af%d8%a7%d8%b92

عذراء عبد الجبار

لكل مبدع بيئته تشكله وتحدد ابعاد ملامحه ، ولكل ابداع ظروف وخصوصية أرض ينتمي لها تكوينيا واضعة سمات ذلك الابداع ووجهته نحو فضاءات الخلق المبدع. وبهذا يكون للمؤثرات المحيطة لكل مبدع اثارٌ حاسمةٌ مرتكزة على نشأته وتكوين شخصيته وميوله وثقافته التي انطوى عليها خلال يومياته التي تقتنص كل مشاهداته وتؤثر في غرائزه وحواسه لتنمو ذائقته الجمالية ورؤاه وخيالاته بل والفوضى والانكسارات والتصدعات وكل الهوامش ايجابية كانت أم سلبية الأثر التي ستحيط بتكوين شخصيته الفاعلة بعد اتخاذ قرار السير في الطريق الصعب ، الإبداع ، بعد إلحاح وطغيان هذه الموهبة وهي تحاول الخروج من قشرة الكينونة العادية في حضوره ، ذلك الجدار الصلب المحيط بالذات وما حملته من تراكمات واقع وتاريخ يكادان ان يكونا مشيمة وجوده وحبله المعلن والسري في هذه الحياة.

النشأة والولادة .. والغائية الفذة
ان التعاطي مع الجمال وقيمه الحسية والشكلية يقتضي اختيار الموضوع من ركام التجربة الحسية والواقعية والحاجة الى ايجاد مخارج للحدود الصلدة للمفاهيم العاجزة عن الجريان فضلا عن مجاراة الواقع وتداعياته وازماته ومباهجه وتجلياته للوصول الى كمالاتها او لفتح كوة لسبر طرق الحلول والمعالجات وان كانت عبر الاحلام والخيالات الجامحة ، ولا يتم هذا حتما الا بوضع المقال في مقامه المنسجم فهما وحسا وموضوعا واستشرافا ، بعد استكمال بناء ملكة التشييد البنائي للموضوع ببلاغة وبيان جلي ووفق طرق الابداع الفنية المأخوذة من مدارسها المولودة من رحم تاريخها وعبر سلسلة متصلة من التطور في البناء والتطور في وسائل التعبير البليغ المحلق بمفاتن الجمال الآسر للقلوب والعقول في آن. والمبدع مهندس عبقري حالم ، فنان في تشكيل رؤاه وأحلامه ، فيرسم ويخطط ويشيد عوالما لم يدخلها غيره ولم يرها سواه ، عالم يصيب الناظر بالدهشة والحبور ، ويثير فيه انفعالات ممتعة وعميقة الأثر والاحساس ، مجددا الحياة فيه ، على طريق من الاجابات التي كانت فيما مضى مبهمة أو غير واضحة المعالم .
ينشغل المبدع كثيرا بتلمس احاسيس بني الانسان ، يتتبعها حيث ولدت وترعرعت ونمت ، ولا سيما تلك التي تمس الروح فتتوغل الى عمق الذات ، فتحرقها حتى تصبح جمرا وهّاجا وشعاعا يخطف الأبصار ، فتراه متعبا منهكا منزويا من شدة ذلك التوهج وذلك الأتون السحري التوقد ، حاملا هموم الخلق المنكسر اليائس ، رافعا يافتات احلامهم وامانيهم ، حاملا معوله لهدم أصرحة الجوع والاستغلال والطبقية البشعة والظلم والقسوة ، تراه يصرخ مدويا مدافعا عن البراءة والطفولة والجمال النقي والأحاسيس المفعمة بالعذوبة والرقي . يقف دوما مع الدماء الزكية مع ألم المضحين من اجل الخير والصلاح ، من أجل احقاق الحق واقامة العدل وبث الفضيلة وترسيخ معاني الجمال الكوني الفصيح ، ذلك الجمال الذي يجعل من الحياة مكانا صالحا للعيش بهناء وسلام وعافية لبني الانسان.

الخلق المبدع ورسالة السماء
ان ذلك الجانب الابداعي الكلي الحاجة والمضمون من منظور واقعي تحليلي وهو يحرك عجلة الحياة نحو الدنيا والآخرة يكاد يقترب للمثالية بل ويكاد يقترب من الرسالات السماوية ، لذلك يصنف الكثير من الفلاسفة والمفكرين والباحثين الاجتماعيين مكانة الشعراء .. مثلا .. في مكانة ودور عطائهم الانساني الايجابي والفاعل بشكل معجّل للقفز في بناء الحياة الانسانية نحو تكاملها ، في مرتبة هي بعد مراتب الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، ولم يتأتى هذا من فراغ بل من قراءات علمية واقعية للنتاج الانساني والتطور الفكري والحضاري التاريخي عبر مسيرة الانسانية جمعاء .
ومن كينونة وغائية ما تقدم في مسألة بيأة الابداع والمبدع ونشأتهما وماهية النتاج المفترض الاتيان به بل والمتحقق منه ، واقعا ابداعيا ، يكون وجود المبدعين حجر اساس بأي بناء حضاري بل وأي تأصيل مدني يقتضي وجود الاصلاح لتأهيل ما تشوه وتهدم من قيم وبناءات سلوكية واخلاقية وثقافية تنشد الرقي والكمال ، لتحقق السعادة ، غاية جميع الخلق ، ففي حين وموقف زماني كان أم مكاني ، جزئي أم كوني ، قد تتعذر الاجابات والحلول فيه ، يأتي دور الابداع لتهيئة فرص النجاة عبر خلق ما لم يستطع ان يخلقه الواقع المادي والافتراضي ، بأدواته الرخيصة المتوفرة في الأسواق ، أو المتراكمة على الرفوف العتيقة الطراز التقليدية النظر .

المسؤولية التاريخية والحضارية أزاء المبدع
لذلك كان التهاون والتغافل في رعاية هذه الشريحة المهمة من بعض الأنظمة والحكومات في البلدان المتخلفة في دول العالم الثالث تتأتى من خوف السلطة الحاكمة من تعجيل سير عجلة الحياة الراسخة بالجمود أو الغائصة بتناقضات وغثيانات الوعي الصدئ ، لنقلها الى وضعها من الحراك الزمني الحضاري الطبيعي المشدود بتوق ولهفة للنهوض والارتقاء والتسامي نحو الصلاح والفضيلة والرفاه بمعنييها الروحي والمادي ، فتقف تلك السلطات القسرية وعبر النار والحديد بكل اشكاله المتحجرة ، ماديا وواقعيا أم روحيا وفكريا ، عقبة كؤودا امام كل أشكال الابداع فضلا عن المبدعين في حياتهم لإغراقهم ودفنهم في دوّامة الحياة غير المنتجة وخيبات الأمل المتلاحقة وقطع سبل الهواء والغذاء المؤدية لرئاتهم وبطونهم على حد سواء ، وبذلك يكون قد تحقق الركود في مستنقع الحياة ضامنين عدم وجود حراك قد يثير ضحالة ورائحة ما أسن من ركام افعال واعمال قبيحة تشكلت عبرها دوامة التخلف والجمود والانحطاط والنكوص ، بعيدة كل البعد عن القيم البنّاءة للحياة ولا سيما التنويري منها كالدين الحنيف والادب والفن الرفيع المبدع والثقافة التي تعبد طرق السلامة والأمان والسعادة بين بني البشر .

نشرت في الولاية العدد 95

مقالات ذات صله