من وحي نهج البلاغة بذور التفكير الفلسفي في نهج البلاغة

254789_9

إدريس هاني

إن تعاليم الإمام علي بن ابي طالب كما وردت في نهج البلاغة، سواء تعلقت بالشأن التربوي أو السياسي او الإداري.. تعكس برمتها منحى خاصا، هو تنزبل العقل، منزلة الرهان الأخير في مضمار الثقافة الاسلامية، فالحديث عن العقل في نهج البلاغة. على الرغم من أنه لم يشمل كل ما قاله الإمام بلغ حدا فائقاً، حيث بلغ ذكر لفظ العقل ومشتقاته الى ما يعادل مائة مرة بالإضافة الى اكثر من سبعٍ وعشرين مرة من ذكر لفظ حكمة ومشتقاتها التي تؤدي معناها، ناهيك عن عدد الألفاظ التي تكررت في كتاب النهج وهي تؤدي المعنى ذاته.

نلاحظ أن نهج البلاغة هو مواجهة من التعاليم العقلانية والأفكار الفلسفية، بل إنه يمثل التأويل العقلاني، والوجه الفلسفي لتعاليم الإسلام، ولعلنا نستنتج من خلال هذا التضخم والعرض الحاشد للآراء العقلانية كما وردت في النهج، حيث تمثل انقلابا ملحوظا في تقاليد وآراء ذلك العصر، بأن هناك حقا أزمة عقلانية اقتضى الوضع مواجهتها بمزيد من الاصرار على خيار العقلانية في المناحي كافة الفكرية والسياسية والاقتصادية كما عكستها نصوص نهج البلاغة، ويمكن للناظر أن يتلمس أفكارا في النهج تضارع، ان لم نقل تؤسس لآراء فلسفية، سوف تكون مدار اشتغال فلاسفة الإسلام ومتكلميه في ما بعد.
وعلى غرار ما جاء في القرآن الكريم، كانت خطب علي بن ابي طالب، تخاطب العقل، وتحيل على ادق الخطوات في مسالك التعقل والنظر، فما خلت خطبه من تنبيه إلى ما وراء حسن النظام وتمام الكون من عبر لو نفذ اليها الناظر بصيرة العقل، هكذا تحدث عن السماء والأرض واصناف من الخلائق، فيقول واصفا السماء: (نظم بلا تعليق رهوات فرجها، ولاحم صدوع انفراجها، ووشج بينها وبين أزواجها، وذلّل للهابطين بأمره والصّاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها بأمره ناداها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى أشراجها، وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها، وأقام رصدا من الشّهب الثّواقب على نقابها..) وعن الأرض يقول: (كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة، ولجج بحار زاخرة, يلتطم اواذى أمواجها، وتصطفق متقاذفات أثباجها وترغو زبداً كالفحول عند هياجها.. وسكنت الأرض مدحوة في لجة تياره..)(نهج البلاغة، الخطبة 91).
فحسن الملاحظة هي الخطوة الرئيسة في تأمل الطبيعة والملاحظة التي تتم بواسطة العقول المحررة من سلطان الشهوة والأهواء (وكم من عقل اسير تحت هوى أمير) (نهج البلاغة قصار الحكم 211) (شهد على ذلك العقل اذا خرج من اسر الهوى) (نهج البلاغة قصار الحكم الكتاب (3))، وكأننا بإزاء محاولة مبكرة تؤسس لنقد العقل.
ان المكانة التي يحظى بها العقل في عموم تعاليم الأئمة، لا يرقى اليها ادنى شك، فالعقل هو ما كان في البدء، والأنبياء انما جاؤوا ليحتجوا على الناس بالعقل، وليبسطوا امامهم البراهين وليثيروا لهم دفائن العقول، استدلالا على صدق نبوتهم بالتبليغ والحجة والعقل، حيث يقول في مورد بيان علة البعثة: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة)( نهج البلاغة قصار الحكم الخطبة الأولى).
ذلك هو عين ما أكدت عليه باقي تعاليم الأئمة، حيث العقل يحتل المنزلة الأولى، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام رواية عن رسول الله صلى الله عليه واله: (لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: اقبل فاقبل، ثم قال له ادبر بأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب الي منك ولا أكملتك الا في من أحب، أما اني اياك آمر وإياك انهي واياك اعاقب واياك اثيب)( الكليني، اصول الكافي، ص8، ج1 ط1388هـ، منشورات المكتبة الاسلامية).
إذا، هذا هو الأساس الذي تنهض عليه الحكمة المتعالية، وهو المستند الرئيسي للفلسفة الإلهية في نطاق الاسلام الشيعي، فالفلسفة في هذا الجانب من التراث الاسلامي، قضية اصيلة ومنسجمة مع المرجعية الروحية للإسلام.

نشرت في الولاية العدد 93

مقالات ذات صله