لقد قدّم الإمام علي بن الحُسَين بن علي بن أبي طالب, عليه السلام,منهجاً وخطاباً أخلاقيّاً متكاملاً في رصده للظّواهرِ الاجتماعية الخاطئة، اعتمد فيه التقويمَ والمُعالجةَ, وذلك من خلال قوله وسلوكه و فعله الواقعي,وبما يحكي عن ذلك من سنّةٍ بيانيّةٍ وفعليّةٍ, ينبغي الأخذ بها, عملاً وحُكمَاً في قدرها المُتيقّنِ، وهذا ما تجلّى في دُعائه الموسوم بدُعاء مَكارم الأخلاق ومَرضيّ الأفعال الوارد في الصحيفة السجّاديَّة، والتي قد ثبت تواترها وصحة صدورها سنداً ومتناً ولفظاً بدرجة اليقين والعِلْم التعبّدي، على أساسِ ذلك ينبغي اعتماد مُعالجاتِ الإمام, عليه السلام, الأخلاقية للظواهرِ الاجتماعية في وقته بما ينفعنا في عصرِنا الرّاهنِ, لبناء منظومةٍ أخلاقيّةٍ واجتماعيّةٍ وفكريّةٍ سديدةٍ .
إذ أنَّ الإمام زين العابدين, عليه السلام, قد قدّم لنا كُلّ ما نحتاجه, من مَخارجَ وحلولٍ وإرشادٍ وتربيةٍ وهَدْيٍ في حَراكنا الأخلاقي والاجتماعي .
وإنَّ متنِ دعاء مكارمِ الأخلاقِ ومَرضي الأفعال لجديرٌ بالدراسة الأخلاقية, لِما يحمله من معانٍ ونُظمٍ عربيّةٍ, بلاغةً وأسلوباً وفَصَاحةً وتعبيراً ورُقيَّاً في البيان واللغة ، تُقدّمُ للمُتلقي والقارئَ, كمّاً وكيفاً معرفيّاً كبيراً في أصول الأخلاق والاجتماع والسلوك والتربية والعبادة, ومُجملِ حَراك الإنسان المُسلمِ والمُؤمنِ في هذه الحياةِ الدنيا, فالصحيفة السجّاديّة متناً وإن جاءت بلون الدُعاء والمُناجاة بحسب الظاهرِ, ولكنها تحملُ ألواناً وأفانينَ من المعارف والأخلاق والآداب والسننِ الاجتماعيّة والفضائلِ القيميّة والسُبلِ البنائية التي تأخذ بتكاملِ الإنسان في الدنيا والآخرة .
والضرورة الراهنة آنذاك اقتضت أن تكون الصحيفة بلونِ الدُعاء, ذلك لتعذّرِ سوق العقيدة والأخلاق والفكرِ والإرشاد بطريقةٍ أخرى, إذ كان التصحيح للانحراف السائد يقتضي تبنيَّ مَنهجِ الدُعاء في صناعة الخطاب الإصلاحي والتغييري بصورةٍ تخفى على الظالمين والمُفسدين, فضلاً عن كونها سلوكاً وفِعْلاً مٌباشراً من لدنِ المعصومِ, يُمارسه في حياته عبادةً ومُعاملةً,مما يكون أشدَّ وقعاً وتأثيراً في النفوسِ والعقول والقلوب والسلوك ، وفي الروايّةِ المُعتبرة,( كان الإمام عليُّ بن الحُسَين,عليه السلام, إذا تكلّمَ في الزهد, ووعَظَ أبكى من بحضرته) .
وما ينبغي بنا هو أن نوجّه وجوهنا وسلوكنا وِجهَةَ مَكارم الأخلاقِ ومعاليها ومحاسنها, لأنّها سبيل الصلاح والنجاح والهُدى,و(عن أمير المؤمنين,عليه السلامُ, أنّه قال : لو كُنّا لا نرجو جنةً ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً, لكان ينبغي لنا, أن نطلِبَ مَكارمَ الأخلاقِ, فإنّها مما تدل على سبيلِ النجاح).
إنَّ انشداد الإنسان إلى عالَم الحياة الدُنيا, وبإفراطٍ وتطلعه إلى أمورٍ يعتقد أنَّ بها سعادته، كجمعه للمالِ, وهَجره لقيمِ الدّينِ والأخلاقِ والعقيدةِ, ذلك ما جعله يفقد توازنه في حَراك تهذيبِ النفسِ وتكميلها ورعاية حقوقِ الله تعالى و المُجتمعِ, مما أفضى إلى بروزِ ظواهرٍ اجتماعيةٍ خطيرةٍ تمثّلت بالعقائد المنحرفة والأخلاقِ السيئة و الإسرافِ والتبذيرِ والترف, والتي أضرّت بمُنتَظمِ التعايشِ القويمِ.
وظهور مِثلِ هذه الظواهرِ آنذاك, في عصرِ الإمامِ عليِّ بن الحُسَين ,عليه السلام, عصرٍ امتاز بالظلمِ والطغيانِ الأموي, لها دوافعها وأسبابها,ومن أهمها كثرة الفتوحات للبلدانِ البعيدة عن مركزِ الإسلامِ الحقِّ وأهله الصالحين,جغرافيةً وانتماءً ونسيان ذكرِ اللهِ تعالى , والتَهَاون في عباداته, والزيغ عن شريعته, وإقصَاء القيمةِ الأخلاقيةِ في النيّة والعملِ والكسبِ والتعاطي الاجتماعي, لذلك قد تصدّى الإمام عليُّ بن الحُسَين, عليه السلام, وبحِكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ وبلسانِ الدعاء الصالحِ والمُعالِجِ في دُعائه, (مَكارِم الأخلاقِ ومَرضيّ الأفعال), تصديّاً ثَريّاً في أبعاد الروحِ وآفاقِ الصِلةِ باللهِ تعالى, وفي أبعاد الثقافة الأخلاقيّة العمليّة, وبصورةٍ متوازنةٍ وعادلةٍ, تحفظ قَدرَ وقيمةَ العامِلِ بها في نفسه ومجتمعه, فكان الرصد والعلاج عمليّاً ومبنيّاً على دعامةٍ نفسيةٍ مَكينة, تتقوم باستكمالِ الإيمانِ باللهِ واليقينِ به.
إنَّ دعاء مكارمِ الأخلاقِ ومَرضي الأفعالِ, لم يكن مُجرد دعاء فحسب, بل هو منهجٌ بنيوي سديدٌ,يهتمُ ببناء الإنسان, نفساً وعقيدةً وأخلاقاً وسلوكاً, ولو أخذنا به عملاً, لجنينا ثمراته واقعاً, فهو منهجٌ حكيمٌ من لدنِ معصومٍ, يمنح الإنسانَ المُؤمنَ قُدراتٍ وخبراتٍ في صور التعاطي مع النفسِ, معرفةً وتزكيةً, ومع المُجتمعِ تعايشاً وإصلاحاً, فما من ظاهرةٍ اجتماعيةٍ أو أخلاقيةٍ سيئةٍ, إلاّ وقد عالجها الإمام, عليه السلام, وبمقولةٍ بليغةٍ, وعلاجٍ تطبيقي وبياني وارشادي, وبِمَرأى ومَسمَعٍ من الناس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر البحث:
1- الكافي, الكليني,ج8,ص14, ط2,طهران 1389 ه ق .
2- جامع أحاديث الشيعة, السيد البروجردي,ج14,ص210,ط,قم,1407ه.
نشرت في الولاية العدد 120