دور الرثاء في تخليد مآسي أهل البيت عليهم السلام

د. حسين لفتة حافظ

عرف العرب منذ زمانهم القديم فن الرثاء، وكان لهذا الفن الشعري قيمة أدبية عالية، بالإضافة لقيمته الاجتماعية، واشتهر عبر تاريخنا العربي شعراء كبار استطاعوا أن يخلدوا أسماءهم عبر هذا اللون الشعري، وتعدُّ «الخنساء» التي رثت أخاها «صخراً» انموذجاً لقيمة هذا اللون الشعري في تخليد الشخص الذي يكون أهلاً له، ومع تطور المجتمعات، استطاع فن الرثاء أن يتناغم مع هذا التطور، ويكون حالةً تتمتع بخصوصية يفرضها المجتمع الذي تكون فيه، وتعددت أبوابه تبعاً للصفة الغالبة في الشخص الذي يرثى، و»الرقة» بهذا الخصوص، تتميز بالخصوصية في هذا الفن، الذي يحاكي مشاعر إنسانية غاية في العمق.

اما في العصر الحديث فقد اخذ هذا الفن بعدا آخر خاصة بعد ان اتجه به بعض الشعراء نحو رثاء اهل البيت عليهم السلام, وبدا الشعراء يكتبون قصائد تناولت رثاءهم منذ العصر الاسلامي حتى يومنا هذا ولعل ابرزهم الكميت ودعبل والسيد الحميري وسواهم من الشعراء مرورا بالسيد حيدر الحلي في العصر الحديث، اذ كانت قصائدهم مليئة بصور الحزن على شهداء اهل بيت النبوة الذين ضحوا بانفسهم دفاعا عن مبادئ وقيم الدين ودفعوا حياتهم في سبيل نصرة الدين.
والرِّثاء لُغةً: هو البُكاءُ على الميت ومَدحُهُ، يقال: رَثَي فُلانٌ فُلاناً يرثيه رثاء ومرثية، إذا بكاه بَعدَ مَوتِه. فَإِن مَدَحَهُ بَعدَ مَوتِه قال: (رَثّاه يُرَثّيه ترثيةً. ورَثَيتُ الميّت رثياً ورثاءً ومرثاةً ومرثيةً، ورثيته: مدحته بعد الموت وبكيته. ورَثَوتُ الميّتَ أيضاً، إذا بكيته وعَدَّدت مَحاسنَه، وكذلك إذا نَظَمت فيه شعراً، ورَثأت الرجلَ رثاءً بالهمزة لغة، بمعنى رَثَيتُ ورَثوتُ(1).
وأمّا معناه في الاصطلاح، فيقول عنه قدامة بن جعفر: ليس بين المَراثي والنّعتِ فرقٌ إلّا أن يذكر في اللفظ ما يَدلّ على أنّه لِهالكٍ مثلُ «كانَ وتولّى وقَضَى وما أشبه ذلك»، وهذا ليس يَزيدُ في المعنى ولا ينقص منه. وقد يُسَلَك في التأبين مَسلَكاً آخَر يَدلُّ علي الرَّثاء، كَأَن يُقال: ذهب الجودُ، أومَن للجود بعــــــــده؟ وما أشبه ذلك(2).
ومن الجدير بالذكر ان الشعراء سلكوا في رثاء أهل البيت مسلك الالتزام الخلقي, وهو شكل من أشكال الصدق في التعبير عن النفس وما يعتمل فيها, والفكر وما يتفاعل فيه, والخيال وما يضطرم به والروح وما ينبث عنها كلها أمور خاصة قد تميز أديبا عن آخر, والأدب – كسائر الفنون – تعبير عن قيم حية ينفعل بها ضمير الفنان هذه القيم قد تختلف من نفس الى نفس, ومن بيئة الى بيئة, ومن عصر الى عصر, ولكنها في كل حال تنبثق من تصور معين للحياة, والارتباطات فيها بين الإنسان والكون وبين بعض الإنسان وبعض(3).
ويلاحظ الدارس لهذا النوع من الأدب ان شاعر أهل البيت عليهم السلام كان يشارك الناس همومهم الاجتماعية والسياسية ومواقفهم الوطنية, والوقوف بحزم لمواجهة ما يتطلبه ذلك, الى حد إنكار الذات في سبيل معتقده والفكر الذي يتبناه خاصة وانه يعرف جيدا انه يريد السير في طريق أهل البيت وان هذا الطريق يحتاج الى تضحيات تتناسب والمكانة التي سار عليها أهل البيت لان مثل هذا الالتزام يقوم على الموقف الذي يتخذه الأديب وهو يقتضي منه الصراحة والوضوح والصدق والإخلاص والاستعداد للمحافظة على التزامه .
والشاعر وإن كان في لَحظَةٍ مُؤلمةٍ وجد نفسَه بحاجة إلى أن يَتَنفّس عن زفراتها، وفي حَالة حَرِجَةٍ تستدعي مِنه الانطلاق وراء الشُّعور والإحساس والعاطفة مهما بَعُد مَداها، إلاّ أنَّه لم يَنسَ الظُروف التي عاشَ فيها.
مِمّا لاشّك فيه أنّ الرَّثاءَ الحَسَن ما كان منبعثاً مِن القلب الدّامي ومِن َالعاطفة الصادقة، واستطاع الرّاثي أن يُصوّر أحزانَه ويَتنفّس عمّا يُحسُ في الصَدر مِن آلامه، ويُجَسِّد المصيبة كما هو يلمسها، ويضع المَرثيَّ مكانَه اللائق به، ويُشرِك الحُزن، ويُسيطِرُ على عواطفهم وأحاسيسهم. ذَكر النُّقادُ أنَّه أفضل المراثي ما خُلِطَ فيه المدحَ بالتّفَجُّع على الموتى، فإذا وقع ذلك بكلام صحيح، ولهجة مُعربة، فهو الغاية مِن كلام المَخلوقين خاصة إذا عرفنا فداحة الماسي التي مر بها أهل البيت ومن والهم فقد ورد في كتاب الكوثر): تعرّض الشيعة مراراً لظلم الخلفاء الأمويين والعباسيين. فقد قام عبيد الله بن زياد ـ أحد ولاة يزيد منذ بدء تسلّطه على الكوفة، وإقدامه على قتل مسلم بن عقيل حتى آخر يوم من حياته ـ بسجن وتعذيب أو قتل اثني عشر ألفاً من الشيعة على الأقل بجرم حب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك في زنزانات مظلمة. وكان يأمر بالتمثيل بالشيعة وبقطع لسان كل مَن يجده مصراً على حب الإمام علي (عليه السلام)، حيث حصلت هذه الجريمة مع ميثم التمار، الصحابي الوفيّ لأهل البيت عليهم السلام» (4).
ومن هنا تكمن اهمية شعر الرثاء كونه قدّم صورة عن اهم الملاحم التي سطرها اهل البيت من خلال نماذج من هذا الشعر والكشف عن ألوانه المختلفة، فضلا عن الحديث عن الموضوعات والمضامين المختلفة التي تناولها ذلك الغرض الشعري بألوانه المختلفة، إذ إنه من المعلوم أن ألوان شعر الرثاء متفاوتة في مضامينها، فشعر رثاء الأبناء والآباء غير رثاء الأقرباء الآخرين، ورثاء الأصدقاء ورفاق الدرب غير رثاء الملوك والسلاطين وسائر الأعيان، ورثاء المرأة غير رثاء الرجل، وهكذا وبتفاوت هذه الألوان ومضامينها يتفاوت الصدق الشعوري والسمو الفني, وبيان نظرة أولئك الشعراء إلى الموت والحياة، الوقوف على السمات الفنية لذلك الغرض، وبيان ما فيها من تقليد، وما طرأ عليه من تطور وتجديد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ينظر لسان العرب ج 5: 122
2- ينظر نقد الشعر , قدامة بن جعفر: 59
3- ينظر الالتزام في الأدب الإسلامي , محمد بركة، موقع نوافذ.
4- الكوثر ج ـ1 – (ج 1 / ص 369) الإمام الخميني.

نشرت في الولاية العدد 99

مقالات ذات صله