جورج جرداق
من تتبّع سير العظماء الحقيقيين في التأريخ لا فرق بين شرقيّ منهم أو غربي، و لا قديم ومُحدَث، أدرك ظاهرةً لا تخفى وهي أنّهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تبايُن مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة والضعف، فهم بين منتج خلّاق، ومتذوّق قريب التذوّق من الإنتاج والخلق، وكأنّ الحس الأدبي، بواسع معانيه وأشكاله، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم.
فنظرةٌ واحدة إلى الأنبياء مثلاً، تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان، فما داود وسليمان وأشعيا وأرميا وأيوب والمسيح ومحمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب الخاصة بهم، وهذا نابوليون القائد، وأفلاطون الفيلسوف، وباسكال الرياضي، وباستور العالم الطبيعي، والخيّام الحسابي، ونهرو رجل الدولة، وديغول السياسي، وابن خلدون المؤرخ، إنهم جميعهم أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصافّ ذوي الشأن من أهله، فلكلٍّ منهم لون من ألوان النشاط الفكري حدّده الطبع والموهبة، ثم رعت النزعةُ الجمالية ما دخل منه في نطاق التعبير، فإذا هو من الأدب الخالص.
هذه الحقيقة تتركز جلية في شخصية علي بن أبي طالب(ع)، فإذا هو الإمام في الأدب، وهو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علّم وهدى، وآيته في ذلك «نهج البلاغة» الذي يقوم على أسُس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أُسُس، وتتّصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرناً فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيّدُها في نطاقٍ من بيانه الساحر.
أما البيان فقد وصل عليٌّ (عليه السلام) سابقه بلاحقهِ، فضمّ روائع البيان الجاهلي الصافي المتّحد بالفطرة السليمة اتحاداً مباشراً، إلى البيان الإسلامي الصافي المهذّب المتحد بالفطرة السليمة والمنطق القويّ اتحاداً لا يجوز فيه فصلِ العناصر بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية، ومن سحر البيان النبويّ، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه «دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق».
ولا عجب في ذلك، فقد تهيّأت لعليّ جميع الوسائل التي تعدّه لهذا المكان بين أهل البلاغة، فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد الله(صلى الله عليه واله)، وتلقّى من النبيّ رسالته بكل ما فيها من حرارة وقوة، زيادة على ذلك استعداداته الهائلة ومواهبه العظيمة، فإذا بأسباب التفوّق تجتمع لديه من الفطرة والبيئة جميعاً.
أما الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له في كل عبارة من «نهج البلاغة» عملاً عظيماً، وهو ذكاءٌ حيّ، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار، إذا هو عمل في موضوع أحاط به بُعداً فما يُفلت منه جانبٌ و لا يُظلَم منه كثير أو قليل، وغاص فيه عمقاً، وقلّبَه تقليباً، وعركه عركاً، وأدرك منه أخفى الأسباب وأمعنها وأدرك أصدق النتائج المترتبة على تلك الأسباب: ما قرُبَ منها أشدّ القرب، وما بعُد أقصى البُعد.
ومن شروط الذكاء العلويّ النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّى اتجهت، وهذا التماسُك بين فكرة وأخرى حتى تكون كل واحدة منها نتيجة طبيعية لما قبلها وعلّة لما بعدها. ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يُستغنى عنه في الموضوع الذي يُبحث فيه، بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونها، وهو لاتساع مداه، لا يستعمل لفظاً إلا وفي هذا اللفظ ما يدعوك للتأمل أكثر فأكثر، و لا عبارة إلا وتفتح أمام النظر آفاقاً متعددة.
فعن أيّ رحبٍ وسيعٍ من مسالك التأمّل والنظر يكشف لك قوله: «الناس أعداء ما جهلوا» أو قوله: (قيمة كل امرئ ما يُحسنه). أو (الفجور دارُ حصنٍ ذليل).
وأيّ إيجاز معجز هو هذا الإيجاز: (من تخفّف لحق) وأيّ جليل من المعنى في العبارات الأربع وما تحويه من ألفاظ قلائل فُصّلت تفصيلاً، بل قلْ أُنزلت تنزيلا!
ثمّ عن أي حدّة في الذكاء واستيعاب للموضوع وعمق في الإدراك، إذ يعمل هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد وصفة نفسهِ وحقيقة حاله: (ما رأيت ظالماً أشبه بمظلومٍ من الحاسد: نفسٌ دائم وقلبٌ هائم وحزن لازم. مغتاظٌ على من لا ذنْبَ له، بخيل بما لا يملك).
ويستمرّ تولّد الأفكار في (نهج البلاغة) من الأفكار، فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي. وهي مع ذلك لا تتراكم، بل تتساوق ويترتّب بعضها على بعض. ولا فرق في ذلك بين ما يكتبه عليّ وما يُلقيه ارتجالاً، فالينبوع هو الينبوع ولا حساب في جريه لليل أو نهار.
ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم، وإنك لتدهش أمام هذا المقدار من الإحكام والضبط العظيمين، حين تعلم أن عليّاً لم يكن ليعدّ خُطَبه ولو قُبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.
فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفوَ الخاطر لا عنتَ ولا إجهاد، كالبرق إذ يلمع و لاخبرَ يأخذه أو يعطيه قبل وميضه، وكالصاعقة إذ تزمجر ولا تُهيّء نفسها لصعقٍ أو زمجرة، وكالريح إذ تهبّ فتلوي وتميل وتكسح وتنصبُّ على غاية ثم إلى مداورها تعود و لا يدفعها إلى أن تروح وتجيء إلاّ قانونُ الحادثة ومنطقُ المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل ولا بعد!
ومن مظاهر الذكاء الضابط القويّ في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان عليٌ يضبط بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه وتعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تُغرقه في محيط من الأحزان والكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء ومضاء، فإذا هو آمر مطاع.
ومن ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوّع البحث والوصف، فأحكم في كل موضوع، ولم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سُبل البحث، فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا وشؤون الناس، وطبائع الأفراد والجماعات، وهو يصف البرق والرعد والأرض والسماء، ويسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف خفايا الخلق في الخفاش والنملة والطاووس والجرادة وما إليها، ويضع للمجتمع دساتير وللأخلاق قوانين، ويبدع في التحدث عن خلق الكون و روائع الوجود، وإنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم والمنطق المحكم، في مثل هذا الأسلوب النادر.
أمّا الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفّاق الجوانح في كل أفق، وبفضل هذا الخيال القويّ الذي حُرم منه كثير من حكماء العصور ومفكري الأمم، كان عليّ يأخذ من ذكائه وتجاربه المعاني الموضوعيّة الخالصة، ثم يطلقها زاهيةً متحركة في إطار تثبُتُ على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون، فالمعنى مهما كان عقلياً جافاً، لا يمرّ في مخيّلة علي إلاّ وتنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود وتمدّه بالحركة والحياة.
نشرت في الولاية العدد 127