صلاح عبد المهدي الحلو
بدموعِ الأحزان تجري من عُيونِ القلوب, وبزفراتِ الأسى تسعر في خلجاتِ الصُدُور، تنعى شفاهُ قلمي غيابَ كوكبِ العصمةِ في سماءِ الإمامة, وغروبَ شمسِ الهُدى خلفَ أُفُقِ الرحيل، وتعزّي بهذا المُصابِ الجَللِ والفجيعةِ العُظمى صاحبَ العصرِ والزمانِ المهديّ المنتظرَ عجل اللهُ فرجَهُ الشريف.
وُلِدَ الإمام الصادقُ كما يُولَدُ الفجرُ الصادقُ في أُخرَياتِ الليلِ البهيم.
وُلِدَ كما يُولَدُ مطلعُ القصيدةِ في قلبِ الشاعر، وكما تولَدُ القضيةُ الحيَّةُ في ضميرِ الامة؛ وكان يكتملُ في نموهِ سنةً بعد سنة، كما يكتملُ القرآنُ في نزولهِ سورة بعدَ سورة والقمرُ في اطلالتهِ ساعةً بعدَ ساعة.
وكان أبوه صلوات اللهِ وسلامُهُ عليه يحنو عليه كما يحنو صدرُ الربيعِ على ربى الحقول, وكما تحنو كفُّ المطرِ على نوَارِ الرياض.
وكان فرداً من الرجال, اجتمعت فيه امةٌ من الصفات, فهو بين رجال الصفوة صفوة الرجال, كما يكونُ البيتُ في القصيدةِ بيتَ القصيد، والفكرةُ في النظريةِ سرَّ النظرية.
وُلِدَ ليكونَ في ميلادِهِ مولدُ قضية..
وقتل ليكونَ في موتهِ احياءُ امة..
واستُشهِدَ ليكونَ في استشهاده بعثُ شريعة.
ثورة الصمت:
كُتِبَ على دمِ الامامِ الصادقِ(عليه السلام) انْ يكونَ كوثراً تروي منه شفاهُ الشريعةِ ظمأها، وعلى انينِهِ انْ يكونَ قيثارةً تعزفُ عليهِا اصابعُ الثوراتِ ترانيمَها.
كانَ فكرُهُ هو المبدأ وهو النظرية، وكان دمُهُ هو الموقف وهو التطبيق..
وكانتِ الثورة.
ثورةٌ لسانُها الصمتُ, وحينَ يكونُ الصمتُ احتجاجاً..
وحينَ يكونُ الصمتُ اعتراضاً..
فهو ابلغُ من القولِ بَيانا, واشدُّ منهُ لهجة.
وحينَ يكونُ الصمتُ ابلغَ من القولِ, واشدَّ لهجة..
فهو للأمة موقفٌ, وللرجُلِ هويةٌ,وللتاريخِ عبرة.
كذب وافتراء:
وبعد ان قتلُوا شخْصهُ ارادوا قتلَ شخصيته فقالوا كذبا وزورا انه كان يستخذي أمامَ المنصورِ الدوانيقي فيقول له معتذراً: (يا أميرَ المؤمنين، إن سليمانَ أعطِيَ فشَكر، وإن أيوبَ ابتليَ فصبر، وإن يُوسُفَ ظُلِمَ فغَفَر، وأنتَ من ذلكَ النسل).
وأنا ما زلتُ اعجبُ ممن يروي هذه الروايةَ بتلكَ الصورةِ من شيعتِهِ, مع ان المحققينَ من علمائِنا رفضُوا هذه الصورةَ، وان اتفقَ أن نقلَها احدُهُم فمن بابِ الحكايةِ عن كُتبِ غيرهم لا لالتزامِهم بها , ولا لاعتقادهم بمضمونِها.
فهذِهِ الروايةُ المكذوبةُ اما ان تُروى من دونِ ذكرِ السند أصلاً او من دون ذكرِ الراوي عن الإمام الصادقِ(عليه السلام)كما في بعضِ الكتب، وإمّا أن تُروى بسندٍ غيرِ موثوقٍ به كما في البحارِ من كُتُبِ الشيعةِ، أو بسندٍ ضعيفٍ كما في (مقاتل الطالبين) والعقد من كتبِ العامة.
ويكفي أن تعلمَ أن احدَ الذين انتهى إليهم الإسناد: الربيعُ حاجبُ المنصور ومن اكبر رجالِهِ وممن تلطختْ يداهُ بدماءِ الأبرياء، فكيف نصدِّقُ بهكذا رواةٍ يا أولي الالباب؟
قراءة الوقائع بالبصيرة:
تعالوا معنا نقرأ التاريخَ ببصيرتِنا لا بأبصارنا, ونرسم اللوحةَ بالعقلِ لا بالعاطفة.
ان الخائفَ هو الذي يخشى, وهو الذي يستخذي, ولقد شَهِدَ التاريخُ أن من اتصفَ بهاتينِ الصفتينِ هو الدوانيقي.
فهو الذي قالَ للإمام(عليه السلام) متملقاً: (لمَ لَمْ تغشنا كما يغشانا النَّاسُ؟).
فأجابه الإمام(عليه السّلام) : ليسَ لنا من أمرِ الدُّنيا ما نخافُكَ عليه، ولا عِنْدكَ من أمرِ الآخرةِ ما نرجُوهُ مِنك، ولا أنتَ في نعمةٍ نهنئُكَ بها، ولا في نقمةٍ فنعزيكَ).
فقالَ له المنصورُ: (تصْحَبُنا لتنْصَحنا)، فَرَدَّ عليه الإمام بقولهِ: إنّ مَنْ يريدُ الدُّنيا لا يَنْصَحكْ ومنْ أرادَ الآخرةَ لا يصحبُك).
فها انْتَ تراهُ يُزمجر بزئيرِ النصيحةِ فيُدخلُ الرعبَ في قلبِ الطاغيةِ, ويعصفُ بريحِ الوعظ فيزلزلُ ثباتَ السلطان!
إن الإمام المعصومَ هو مَظهَرُ صفاتِ الله ِ عز وجل, ومن صفاتِه العزيزُ حيث قال: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وقال عزَّ من قائل: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، فالأئمة(عليهم السلام) من أظهر مصاديقِ المؤمنينَ, وهم الفردُ الأكملُ الذي ينصرفُ إليه اللفظُ عندَ الإطلاق ان لم نقلْ ان هذا اللفظَ اصْطِلاحٌ قرآنيّ مخصوصٌ فيهم لا يخرُجُ عنهم إلا إذا دلَّ دليلٌ على خلافه.
فكيفَ يكونُ مظهرُ العزةِ الإلهية خاشعا في بلاطِ الخليفة خائفاً خانعا؟ كَبُرتْ كلمةً تخرُجُ من أفواههم، مالهم كيفَ يحكمون؟
آخر الكلام:
اذن.. هذه دعوةٌ صادقةٌ لقراءةِ موقفِ الامامِ المعصومِ من خلالِ كونهِ مظهراً لصفاتِ الله تعالى, وبعبارةٍ واضحةٍ تعالوا نقرأ الإمام قراءةً عقائديةً لا قراءةً تاريخيةً، فمن خلالِ منظارِ الاولى نفهمُ زيفَ الثانيةِ ونعرِفُ مدى جنايةِ الاقلامِ على مقامِ الأئمة المعصومين(عليهم السلام).
فسلامٌ على قمرِ العصمةِ الزاهرِ يومَ وُلِدَ هلالاً مشرقا، واستتمَّ بدراً مُنِيرَا, واستنارَ كوكباً ساطعاً في سَماءِ الخلود.
نشر في مجلة الولاية العدد 73