المرجعية الدينية للشيخ المفيد

22د. ثائر عباس هويدي 

حفلت الفترة التي عاشها الشيخ المفيد بظهور المذاهب والنحل وبانقسامات كبيرة في الآراء وظهور مناظرات عنيفة وحادة بين مختلف المذاهب, وقد حفظت لنا كتب التاريخ والكلام والفقه والأدب واللغة الكثير من تلك الصراعات والنزاعات والمناظرات وخصوصاً الكلامية منها, وهي غالباً ما تدور حول صفات الخالق وأفعال العباد في الجبر والاختيار وحول الامامة والخلافة وما يتصل بها من مسائل العصمة والنص, وغيرها الكثير من المواضيع الاخرى التي كانت محور تلك المناظرات.
وفي هذه الأجواء تألّقت أسماء كثيرة من قبيل شيخ الأشاعرة أبي بكر محمد بن الطيب البصري المعروف بالقاضي الباقلاني (ت 403هـ) وشيخ المعتزلة القاضي عبد الجبار بن احمد الهمذاني (ت 415 هـ) وأبي الحسن البصري محمد بن علي بن الطيب (ت 430 هـ) وغيرهم كثير .
والذي يهمنا هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد الذي تألق نجمه في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وكوّن مدرسة فكرية تستمد أصولها من تعاليم أئمة أهل البيت(عليهم السلام), ويعد الشيخ المفيد من أكبر العلماء الذين تركوا آثاراً فكرية وعلمية فضلاً عن الاجتماعية نهضت بحركة المدرسة الشيعية الامامية وبلورت مناهجها العلمية في مختلف العلوم, إذ انتهت اليه رئاسة المدرسة الامامية بسبب ما يمتلكه من مكانة اجتماعية ونشاط في توجيه العلماء واعتناء بتربية الكوادر المؤهّلة لزعامة المذهب حتى تخرج على يديه مجموعة من الفقهاء والعلماء الذين تولوا من بعده زعامة المذهب من أمثال الشريف المرتضى والطوسي(1).
وكان للمفيد المرجعية في الفتيا والاحكام في كثير من البلدان التي يرجع الناس فيها اليه في أخذ الأحكام, والفصل في القضايا مثل جرجان وخوارزم وشيراز ومازندان ونيشابور والموصل وطبرستان وعكبرا وغيرها من المدن والبلدان التي كان أهلها يفزعون اليه لحل الخصومات وابداء الرأي في الأحكام(2).
وخير دليل على ذلك ما نلاحظه من رسائل وصلت اليه من مختلف تلك البلدان او من اشخاص في مناطق مختلفة, مما حدا بالشيخ الى كتابة رسائل في الرد عليها وسميت بأسماء تلك البلدان او الاشخاص مثل جوابات اهل الموصل(3) والمسائل الجارودية(4) والمسائل العكبرية(5) والمسائل السروية(6) والمسائل الصاغانية(7) وغيرها.
وهذه المكانة المتميزة للشيخ لم تأتِ اعتباطاً وإنما جاءت بفضل ما أوتي من مواهب ساعدته على أن يجسد هذه المكانة وأن ينهض بالفكر الشيعي الامامي، مما أحدث نقلة متميزة في المجال الفكري والاجتماعي على حد سواء, هذا بالاضافة الى ما يمتلكه من موهبة علمية وسعة في الاطلاع، وما يتمتع به من احترام الامراء له الذي مكّنه من ان يستحدث وضعا فكريا واجتماعيا متميزا في ذلك الوسط، الذي بدأ الامتداد الشيعي يدب في أوصاله.

نشر في مجلة الولاية العدد 75

مقالات ذات صله