شاكر القزويني
حينما يتجسد العدل في رجل تحار بوصفه الكلمات أن تبلغ معانيه، وذلك ما ينطبق على النبأ العظيم الذي يدور الحق معه حيث دار.. الرجل الاستثنائي الذي ادّخره البارئ للزمن الاستثنائي لتخرج من بين يديه أمة تعد من خير الأمم.
وان أوجه المعاني التي تجلت من بديع إرثه الغني لمدارس تعلّم الحياة سبل النجاة، فمنها تغترف الحكمة والموعظة الحسنة والموقف الواعي والسيرة المهتدية للصلاح والخير، وما أحوجنا اليوم الى قبس من نوره الوهّاج لنضيء به طرق العدل والإنصاف.
صفات الحاكم العادل:
ومن كلماته التي أفاض بها علينا وهو يضع صفات الحاكم العادل حين يقول: «وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ وَلَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ وَلَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائهِ وَلَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ وَلَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ وَلَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ».
ففي هذه الكلمات عبرة للناس ومنهج لهم في اختيار قادتهم وحكامهم لادارة شؤون العباد في أمصارها ومدنها، فيحدد سيد الأوصياء من لا يصلح لقيادة الأمة وإدارة شؤونها، ويستبعد في مقدمتهم البخلاء الذين تسول لهم أنفسهم الاستحواذ على المال العام فضلا عن قصر أيديهم عن البذل والعطاء، ويستبعد ايضا الجاهل، فمن المنطقي ألا يتولى أمور الرعية جاهل يودي بالبلاد الى المهالك بجهله سبل الإدارة والسياسة وحكمة القيادة، ويستبعد كذلك المنقطع عن المجتمع المتقوقع البعيد عن تفاصيل الحياة وهمومها وطموحاتها فيجعل حكومته في وادٍ والشعب في واد آخر.
ومن المبعدين ايضا أصحاب الولاءات للدول الأخرى، الذين يميلون لغير مصلحة بلدانهم ممن يسمّون في عصرنا هذا بـ(العملاء للأجنبي)، أولئك الذين يسخرون خيرات وثروات وأمن ورفاه بلادهم لصالح الغرباء، كما يبعد (سلام ألله عليه) المفسدين المرتشين الذين يضيعون حقوق الناس وينشرون الظلم والقهر في المجتمع فضلا عن إستبعاد البعيد عن طاعة الله وتقواه ممن يعطلون شرائعه وسننه ويجعلون هواهم وأطماعهم وأغراضهم شريعة تورث الظلم والاستعباد والفتنة.
حقّ الوالي والرعيّة:
من المسؤوليات الجسام والحقوق التي لامناص عن تحقيقها – سواء للرعية أم لولاة أمورها- التي فرضها ألله تعالى ليتحقق النظام الصالح وولاية العدل قال (سلام الله عليه) في خطبة له: «وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا الله سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِينِهِمْ فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعيَّة إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ».
ويبين (سلام الله عليه) عواقب هدر هذه الحقوق سواء من الناس في عموم المجتمع أم من الحكام فيقول: «وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَكَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَعُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ وَلَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَتَعِزُّ الْأَشْرَارُ وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ الله سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ».
وهل هناك سوء حال وظلم أكبر من هذا الجور الفاضح والانحطاط، فالعمل بالهوى وتعطيل الحدود والقوانين والعمل بالباطل مما يذل العباد الصالحين ويعز الفاسدين والأشرار، لتصبح بلاد المسلمين مرتعا للجهل والفقر، فيضرب التخلف والمرض بأطنابه في كل مرافق الحياة، وتصبح البلاد مطمحا لكل طامح ومرتعا لكل فاسد.
نصيحة وعظة:
لطالما كانت نصائح أمير المؤمنين(عليه السلام) لولاة أمور المسلمين ولجامعي الخراج في الأمصار الإسلامية ولقادة الجند واضحة في ترسيخ القيم الإنسانية وبث روح التسامح والعطف على الرعية وفي إحقاق الحق ليكونوا على اطلاع دوما بأنهم في دولة العدل والإحسان والفضيلة، فيقول(عليه السلام) في كتاب له إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَه وَابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيمَا افْتَرَضَ الله عَلَيْكَ رَاجِياً ثَوَابَهُ وَمُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلِيَّةٍ لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا فِيهَا قَطُّ سَاعَةً إِلَّا كَانَتْ فَرْغَتُهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ الْحَقِّ شَيْءٌ أَبَداً وَمِنَ الْحَقِّ عَلَيْكَ حِفْظُ نَفْسِكَ وَالِاحْتِسَابُ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِجُهْدِكَ فَإِنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَصِلُ بِكَ وَالسَّلَامُ» فهذا منهاج عمل الحكام الصالحين، فنجد ان هاجس إحقاق الحق والعمل به شرط لازم، فـ(لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ)، إذا عمل بالهوى استجابة لنوازع السوء والعاجلة، فحفظ النفس من السقوط في مهاوي الفساد والطغيان والفجور أمر لا مناص عنه لصلاح الحاكم لتصلح الرعية.
خواصّ الناس وعوامّهم:
كثيرا ما تنطوي خطب ورسائل أمير المؤمنين(عليه السلام) على نصائح وسبل لإقامة العدل في الرعية وإنصاف من لا منصف له، ويوجه (سلام الله عليه) الولاة دوما الى تقديم العامة من الناس على الخواص والحواشي التي تحيط بأصحاب القرار، فيقول في رسالة له: «ولْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّة وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ» فيبيّن إمام المتقين(عليه السلام) صفات العوام من الناس ويميزها من الخواص حين يقول: «وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤونَةً فِي الرَّخَاءِ وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ وَ أَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَ أَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَ أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَ أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَأضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ وَ إِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وَ جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ والْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ» وهو بهذا يأمر بتوجيه الاهتمام والرعاية للعامة والإنصات لهم لتلبية حوائجهم ودفع الضرر عنهم لأنهم اليد التي تضرب الأعداء والقوة التي يدفع بها الشرور والأزمات في البلاد، في حين يكون أهل الخاصة من البطانة والحواشي عبئا ونفقة مكلفة لا طائل منها.
وان معاملة الرعية بالحسنى والاهتمام بهم ديدن منهج الحكم عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو صمام أمان عدله وباب الرحمة التي يدخل منها الحق والإنسانية التي ينشدها في دولته العادلة، فمن عهد له (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر (رضي الله عنه) حين قلده مصر، يوصيه فيقول: «فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِك لَهُمْ وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ».
نشرت في الولاية العدد 79