مربو الأجيال (قصة قصيرة)

67

الشيخ ابو محمد باقر

الزمان: أيام المد الشيوعي بعد ثورة 14 تموز من خمسينات القــرن الميلادي السابــق، أما المكان: فكان أحد أزقة محلة العمارة من مدينة النجف الأشرف وبالتحديد أمام محل متواضع لبيع بعض الحوائج اليومية للبيوت المجاورة يشغله شخص يدعى (صاحب).

 

كان الشيخ (…) ـ وهو أحد الأعلام المعروفين في الحوزة العلمية ـ قد اعتاد المرور في هذا الزقاق يوميا، حيث الطريق الى البيت الذي كان يستأجره حينها.
ويتذكر بعض العراقيين ما لتلك الحقبة الزمنية من تأثير خاص على شباب جيلها، ولاسيما في انبهارهم بالمد الشيوعي الذي تفاقم امره حينها، اذ كانوا يرونه القمة في الحضارة والتقدم.
وممن تأثر بهذا المد المدعو (صاحب) ـ شاغل المحل الذي يقع في ذلك الزقاق ـ واصدقاؤه الذين اعتادوا التجمّع معه كل يوم، وكان التعظيم للشيوعية وبلدانها وقادتها والتوهين للمرجعية الدينية والتخلف الذي تعيشه البلدان الأخرى محور احاديثهم المتكررة، وقد اعتاد الشيخ(…) سماع الكثير منها كلما مرّ عليهم.
ولم يبدُ على الشيخ أنه كان يعير أهمية لشريطهم اليومي وان علم أنهم قد يقصدونه ببعض كلمات الاستهانة والهزء به وبرجال الدين، إذ كانوا يرفعون صوتهم بها كلما مر عليهم، فكان يلقي عليهم السلام على الرغم من شعوره بتثاقلهم في رد الجواب.
وذات يوم يبدو انهم أرادوا أن يتخذوا معه دور المواجهة.. اذ انبرى اليه أحدهم قائلا بلهجة فيها نوع من التحدي والاستهانة: شيخ، هل سمعت بصعود الروس الى الفضاء الخارجي؟
ومع ان الشيخ فوجئ بالسؤال وطريقة إلقائه، إلا أنه ـ بدوره ـ فاجأ الفتى بابتسامة حانية وهو يجيبه بسؤال يريد به ارضاء طموحه المتوثب: وكيف ذلك يا بني؟
ويبدو ان الفتى ارتاح لهذا الموقف اذ أجاب الشيخ بطريقة اتخذ فيها هيأة المدرس لتلميذه فقال: انهم ـ يا شيخ ـ استطاعوا ان يطلقوا قمرا صناعياً الى الفضاء بعد أن تمكنوا من إخراجه عن الجاذبية الأرضية، وهم مصممون على الذهاب الى القمر.
فسأله الشيخ بلهجة أظهر له فيها تعجبه من الموضوع: وكيف استطاعوا ذلك؟
فقال: إنهم استطاعوا ذلك بعد ان تعرفوا على طبيعة الجاذبية الأرضية ومدى القوة التي يستطيعون بها إخراج القمر الصناعي من سيطرتها لينطلقوا به الى الفضاء الخارجي.
وهنا قال له الشيخ: ما الجديد في ذلك؟ ها هو العلم الإنساني ومنذ القديم يتعرف كل يوم على القوانين الكونية ليستخدمها في صالحه في كل جانب من جوانب الحياة؟
ولماذا نحن نُكبر مخلوقا استطاع بعلمه المحدود ان يخرج عن قوة الجذب، ولا نكبر قوة عليا هي التي خلقت قوى الجذب الكوني، ووازنت بينها بدقة ليبقى كل جرم كوني في موقعه؟
ويبدو ان الفتى وجماعته فوجئوا بما لا يتوقعونه من الشيخ، اذ نكس الفتى رأسه متمتما بكلمات غير مفهومة قبل أن يقول: عذرا عذرا شيخنا.
واستمر الشيخ قائلا بلهجته الحانية أيضا: أبنائي الأعزاء، لماذا نحن نُكبر الآخرين على انجاز حققوه لأنفسهم ولا نسعى نحن لإنجاز نفرض به عليهم إكبارنا واحترامنا؟
فنحن نملك من الطاقات ما لا يقل عن طاقتهم، وبأيدينا من منابع القوة ما يحتاجونه هم منا، وفي أيدينا كل مفاتيح النجاح في أي اتجاه نريد، ولا نحتاج أكثر من توظيف ذلك في سبيل الكمال الذي نريد.
وها هو قرآننا يدعونا لأن نكون السابقين في هذه السبل، وأن نكون الأعلين في كل أفق من آفاق العلم والمعرفة، فها هو يقول: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
ويقول أيضا: (ولله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
أفذلك العلو للمؤمنين والعزة لهم درجة تشريف فقط أو هي تشريف ومسؤولية معا؟
وهل يتحقق العلو والعزة لأمة من الأمم من دون أن تمتلك من العلم ما تكون به السبّاقة في كل ميدان من ميادين الحياة؟
إن قرآننا نفسه يقول: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَاب) ألا يعني هذا أنه يوجب على المسلمين أن يكونوا هم قادة المسيرة العلمية والإنسانية في كل أفق من آفاق المعرفة، وان لا يكونوا مقصرين تجاه أنفسهم وتجاه دينهم وتجاه رسالتهم في الحياة؟
وواصل الشيخ حديثه قائلا: عليكم أبنائي ان تعلموا أيضا ان هذا الانطلاق الى الفضاء والى كل باب من أبواب العلوم الكونية والعلوم الإنسانية هو مما بشر به القرآن قبل أربعة عشر قرنا، إذ قال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
والقرآن بهذا الوعد والتبشير قد حمّل المسلمين مسؤولية القيادة العالمية لمسارات العلم ومسارات اثبات الحق لكل من يطلب النور والهدى من الناس، أفيمكن لكم أو لبعضكم أن يتحمل مثل هذه المسؤولية أيها الأبناء الأعزاء؟
قال الشيخ هذه الكلمات لهم وهو يودعهم بابتسامة أبوية، وهم يتمتمون بكلمات الاعتذار والوعد بأن يكونوا عند حسن الظن.

 

نشرت في الولاية العدد 79

مقالات ذات صله