أ.م.د.عباس علي الفحام
ثمة عناية ملموسة في اختيار الإمام علي عليه السلام للألفاظ المختصة بالفعل نابعة من الإحاطة بالمعنى ومطابقة الأداء للمضمون، لذلك يكثُرُ التصوير بالفعل كثرةً بينةً في كلامه، فتشيع فيه الحركة وتنبعث فيه الحياة، ولا ريب في أنَّ ذلك شأن الفعل أكثر من الصفات والمصادر والأسماء. وسيبدو للجرس الصوتيّ للفعل أثرٌ كبيرٌ في نقل الإيحاء وإظهار المعاني الجانبية في بناء الجملة وإقامة الصورة.
قال الإمام عليّ عليه السلام في مآل أصحابه: ((والذي بَعَثَهُ بالحقِّ لتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلةً ، ولَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً ولَتُساطُنَّ سَوطَ القِدر)). و(البلبلة) الهمّ ووسواس الصدر، ولكنّ الصورة لا تريد هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن أبي الحديد ((بل أرادت التفرُّقَ الواسع الذي يشتِّتُ القوم قوله ((ولَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً)) يقوّي ما اراد في البلبلة من معنى الشَتات والتفرّق ولم يُؤْتَ بها للحفاظ على السجع)). وفي تكرار مقطع (بَلْبَلَ) في (لتُبلْبلُنَّ) ما يشير إلى تأكيد ذلك التشتت والتفرق، فهذا المقطع المكرور قد سُبق بمقطعين متحركين وانتهى بمقطع مشدّد فكان الصوت فيه عالي النبرة متموجاً مضطرباً، موحياً بصورة التفرقة. وتبدو الصورة في لفظة (لَتُغربَلُنَّ) أكثر صلةً بسابقتها لارتباطها بجو (البلبلة) الذي ساد النص كلَّه. وسيبدو الجرس أقلَّ حدّةً لو قُرِئَت وحدَها من دون سابقتها، على حين تبدو الصورة مشحونةً بالحركة والاضطراب لو ضُمَّت الصور إلى بعضها البعض. بينما نجد في الصورة الأخرى التي يرسمها الفعل (لَتُساطُنَّ) انتقالاً من جو (البلبلة) إلى آخر فيه قوة وشدة، ولا أدلَّ على ذلك من علوّ النبرة في حرف الصفير (السين) والحرف الشديد (الطاء) فضلاً عن الحرف الممدود الذي يُضطر معه إلى فتح الفم وكأنه يوحي بألم (سوط القدر) بترجيع الصوت وتطريبه. فسوط القدر ((هو أنْ يُضرَبَ ما فيه من الحبِّ واللحمِ والماءِ ونحوِ ذلك بخَشَبةٍ أو نحوِها لتختلطَ جملتُه)) وفي ذلك إشارةٌ إلى ما ستؤول إليه أحوالهم من الاختلاط واختلال النظام ((وتصريف أئمة الجور لهم ممّن يأتي بعده بسائر أسباب الإهانة)). وحتى لا تتبعثر الصور في اللوحة يأتي التناسب بين الأجزاء لتوزيع الوظائف عليها ورَبْطِها ببعضها فاللوحة لا تقف عند الجزء، وهكذا هي في البداية تُبلبل وتفرّق ثم تُمحّص وتُغربل ثم تُساط وتُخلط.
وترتسم الصورة بالفعل المزيد، كقوله عليه السلام واعظاً: ((فَما احْلَوْلَتْ لَكُم الدُّنْيا في لذَّتِها إلاّ مِنْ بَعْدِه)) أي من بعد الرسول الكريم . ومثله يصف الدنيا: ((وإنْ جانِبٌ مِنْها اعْذَوْذَبَ واحْلَوْلى، أمرَّ منها جانِبٌ فأوْبى)). وفي صيغتي (إحلولى) و(اعذوذب) تُلمس كثرة ذلك التحبيب والترقيق من جانب الدنيا إلى أولئك الذين يصفهم الإمام، فكلتا الصيغتين من الألفاظ المزيدة التي تستعمل للدلالة على المعنى الكثير، ((لِما فيهما من تكريرِ العيِن وزيادةِ الواو))، وكأنَّ زيادة المقاطع في أبنية هاتين الكلِّمتين زيادةٌ في معنى التحبيب وكثرة في التشويق. ولا ريب في أنَّ هذا الإيحاء وهذا الجرس تفتقر إليه الأفعال المجردة لـ(حلي) و(عذب) بل لن نجد للصورة أثراً بهما.
أمثلة من أقواله في النبي صلى الله عليه وآله
ومثل ذلك قوله عليه السلام في النبي محمد : ((إِبْتَعَثَهُ وَالنّاس يَضْرِبونَ في غمرة)). فصيغة (ابتعث) فيها فضل قوة من معنى (الإرسال) وتكثير معنى لا يظهر في اللفظ المجرد (بعث) لأنّ اللفظ المزيد أدقُّ في الدلالة على المعنى الكثير من اللفظ المجرد. ومن الأفعال المزيدة التي تُرسم بها الصور قوله عليه السلام مُعَنِّفاً: ((لقد مَلأتُم قَلْبي قَيْحاً وَشَحَنْتُم صَدْري غَيْظاً وَجَرَّعْتُموني نُغَبَ التَهمامِ أنْفاساً)). ويشيع في الصورة جوٌّ من الغضب والألم فهي من خطبة جاءت بعد أنْ أغار أهل الشام على الأنبار. وما يهمنا الصورة التي يرسمها الفعل (جرَّعتموني) فهي صورةٌ تعرض الإكراه والإجبار وكأنَّه محسوسٌ مُشاهَد، إذ كان لتضعيف حرف الراء المكرر المتلوّ بحرف العين النابع من أقصى الحلق إيحاء قويّ في تكثير المعنى، وكأنّ ما يُكره المرءُ على تجرّعه بمثل الشّجا في الحلق لا يملك معه إلا أن يطلق صوت (إع) صوت متجرع على مَضَضٍ وكأنّ ثمة ((مطابقة خفية بين الصوت والمعنى)).
ومما زاد اللفظة قوةً في الإيحاء حسنُ موقعها من الكلِّام فقد جاءت متناسبة لذلك التقسيم في قوله ((ملأتم)) و((شحنتم)).
وفي مقابل ذلك يشيع الفعل (يتنسمون) جوّاً من الدعة والطمأنينة في خطبة أخرى يصف فيها الإمام عليه السلام المؤمنين بقوله: ((يتنسّمون بِدُعائِهِ رَوْحَ التَّجاوُز)). فالموسيقى هادئة وديعة وداعة النسيم تنتقل النبرات فيها بسكينة دون أن تُحدِثَ أيَّ ضجيجٍ ففي لفظة (يتنسمون) أكثر الحركات خفةً وهما الفتحة والسكون فلا تجد الألسن مشقةً في الانطلاق ولا تلقى عَنَتاً من تجاورهما.
التصوير بالأفعال
ومن التصوير بالفعل قوله عليه السلام يصف بيعته: ((فَتَداكّوا عليّ)). والدكّ هو الدق. والصورة تريد رسمَ اندفاع النّاس وهرعهم إلى بيعة الإمام، فهم لشدّة زحامهم وتدافعهم يضرب بعضهم كتف بعض. إنَّ التزاحم في لفظة (تَداكّوا) بوحيه الجرس نفسه، فـ(التاء) حرف ضعيف إمام (الدال) وهما متزاحمان لقرب مخارجهما الصوتية حتى يكاد أنْ يُلفظا (فدداكوا) لغَلَبَة (الدال) على (التاء).
أشدُّ من هذا الفعل وأقوى في عرضه قولُه في المعنى نفسه في خطبةٍ أخرى: ((ثُمَّ تداككتم عليَّ)). فالصورة التي ترسمها لفظة (تداككتم) ليست مجرد اندفاع أو مزاحمة بل هي صورة شديدة تكاد الحروف تزاحم بعضها بعضاً ففضلاً عما قلنا من مزاحمة (التاء) مع (الدال) فقد أُطيلت المقاطع وفُكَّ الإدغام من حرف (الكاف) هذه المرة لتدع الصورة تأخذ حيِّزها من الخيال في مشاهدة ذلك التزاحم الذي قال عنه الإمام عليه السلام: ((حتّى ظَنَنْتُ أنَّهُم قاتِلِيَّ ، أو بَعْضُهُم قاتِلُ بعضٍ لَدَيَّ)) وفي مكان آخر ((حَتّى لَقَد وُطِئَ الحَسَنانِ وشُقَّ عِطفاي)). ولو وَجَدَ الإمام سلام الله عليه لفظاً غير (تداككتم) أقدر على نقل دقائق شعوره لاستعمله فلجرس الألفاظ وقعٌ إيجابي كثيراً ما يعين الكاتب أو الشاعر على استنفاد إحساسه، لأنَّ هذه الصورة جاءت من خطبة بعد قيام الناكثين عليه في البصرة.
ونوعٌ آخر من التصوير بالفعل ذلك الذي ينطوي على أكثر من ضمير كقوله في الخلافة: ((لَقَدْ عَلِمْتُم أنّي أَحَقُّ بِها مِنْ غَيْري ، لأسلِمَنَّ ما سَلِمتْ أُمورُ المسلمين ولم يكُنْ فيها جورٌ إلاّ عليّ خاصّة إلتماساً لأجر ذلك وفضلاً وزهداً فيما تنافستموه من زخرفِهِ وزِبِرجِهِ)). ففي صيغة (تنافستموه) صورة سريعة للتهالك على الدنيا وانتها بها توائم ما اراد الإمام رسمه من معنى لطلاّب الدنيا ، ولعلّ ذلك الإيحاء بفضل تعدية الفعل بنفسه موصولاً بضمير النصب، إذ قلّ أنْ يعدّى هذا الفعل بنفسه من دون حرف جر، ولكنّ سوّغ له ذلك أيراد (فيما) قبله.
إضمار الفاعل
ومن الأفعال التي تُبنى بها الصور ما أُضْمِرَ فاعله، كقوله عليه السلام يصف الموتى: ((ثُمَّ أدرِجَ في أكفانِهِ مُبْلِساً وجُذِب مُنقاداً سَلِساً ثُمَّ أُلْقِيَ على الأعواد رجيعَ وَصَبٍ ونِضْوَ سَقَمٍ)). وللحذفِ سرٌّ جماليّ كشف عنه عبد القاهر بقوله: ((هو باب دقيق المسلك عجيب الأمر شبيهٌ بالسحرِ فانكَ ترى به تركَ الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادةِ أزْيَدَ للإفادة)). ولهذا اكتَسَبَتْ هذه الصيغ المبنية للمجهول (أُدرِج ، جُذِب ، أُلقِي) ذلك الإيحاء بتقديم أهمية الحدث فيها. فلكلِّ فعلٍ من هذه الأفعال صورةٌ شفيفةُ موحيةٌ فالأدراج هو: لفُّ الشيء بالشيء، وهو ما يناسب تكفين الموتى والجذب المدّ والأخذ بشدة والأكثر منه قوة (الإلقاء) ويعني هنا الطرح على الأعواد، وفي هذه الصيغ يكاد يستقل ظل الفعل وإيحاؤه عن جرسه في رسم الصورة، إذ الصورة في إضمار الفاعل وتقديم الحدث قبل كل شيء.
نشرت في الولاية العدد 80