حوزة النجف الأشرف ودورها في التصدي للاعتداءات الوهّابيّة على العراق عام 1922

ikhwan_army

أ.م.د. مقدام عبد الحسن الفياض

ان الخلاف المذهبي بين النجديين (مناصري الدعوة السلفية) وقبائل جنوب العراق التي يتبع معظمها مذهب الشيعة الامامية، يعد سبباً فاعلاً في الاعتداءات الوهابية على العراق، دفع الوهابيين الى الافراط في التجاوز على العراقيين والتمثيل بهم. فقد هاجم رجال ابن سعود بقوة كبيرة فوجاً من قوة الشرطة العراقية في السماوة بتاريخ (11 آذار 1922) وأتبعوه بغاراتٍ ثلاث عنيفة على طول خطوط التماسّ من البصرة الى النجف الأشرف، قُتل فيها الكثيرون ونُهبت كميات كبيرة من الممتلكات، اما الهجوم النجدي الاقسى فقد حصل في اواسط الشهر نفسه، حينما خسرت قبائل المنتفق والخزاعل قرب النجف الأشرف عند تصديهما للغزاة مئتين وتسعة قتلى مع نهب الآلاف من دوابهم وإحراق المئات من الخيام والمنازل.

وفي الواقع فإن إهمال الدولة المنتدِبة -وهي بريطانيا- لواجباتها في الدفاع عن دولة منتدَبة اصبح تناقضاً لا يمكن تجاوزه، اما رد الحكومة العراقية فقد جاء مخيباً لامال شعبها؛ اذ لم يجتمع مجلس الوزراء الاّ في يوم (16 اذار 1922) اي بعد خمسة ايام من وقوع اول الغارات الوهابية العنيفة، واقتصر بالطلب -فقط- من متصرف لواء المنتفق اعانة المتضررين مالياً. الامر الذي فجر الخلاف بين اعضاء الحكومة حول هوية الطرف المسؤول عن حماية حدود العراق (البريطانيين ام العراقيين) والاجراءات الواجب اتباعها لوقف الاجتياحات.
وازداد القلق الشعبي في النجف تأججاً وتعقداً، إذ ظنّ الكثيرون ان هذه الغارات ما هي الا مقدمة لهجوم «وهابي» عام على العراق، وان النجديين سينتهكون الحرمات ويهدمون العتبات المقدسة ويقتلون الناس، مثلما حدث ذلك قبل قرن ونيف.
ونحاول تتبع الاحداث لتعيين القوى الفعلية المحركة لرد الفعل العراقي، والتي عملت بوضوح في الحملة السياسية ضد البريطانيين، ثم توّجت عملها ذاك بمؤتمر كربلاء عام 1922.

مؤتمر كربلاء
كانت أهم وأبرز جماعة في التصدي للحملات الوهابية هم (علماء الدين) يؤيدهم عدد من الوطنيين الشباب الملتزمين الذين نظروا الى مؤتمر كربلاء بوصفه تظاهرة سياسية تتحدى البريطانيين وتمهد الطريق نحو تقويض وجودهم في العراق مستقبلاً، فضلاً عن رغبتهم في تأدية واجبهم الشرعي، فكانت حماستهم ومسارعتهم قبل غيرهم لاتخاذ ما يلزم لرد الاعتداءات تعزى -في جزء منها في الاقل- الى شعورهم بأنهم المستهدفون بالدرجة الاولى من تحرك من أسموهم بـ «الخوارج»، لان خلافهم العقائدي مع الدعوة السلفية التي يعتنقها النجديون ويسعون الى نشرها في البلدان المجاورة كان جوهرياً، لكن هذا لايمنع من التذكير بأن كبار علماء المسلمين السُنة كالشيخ عبد الله النعمة ومسؤولي اوقاف بغداد أصدروا فتاوى كثيرة تستنكر اعتداءات «الوهابيين» على ارض وطنهم العراق وتدعو الى الذود عنه وعن مقدساته.
تحرك علماء الدين في النجف الأشرف اولاً، من اجل التهيئة للمؤتمر والاعداد له، عندما بعث قطبا المرجعية الدينية العليا: السيد ابو الحسن الاصفهاني والشيخ محمد حسين النائيني برسالة الى احد كبار العلماء المجتهدين في الكاظمية وهو الشيخ مهدي الخالصي، يدعوانه فيها الى عدم الثقة بما وعدت به بريطانيا من « دفع الخوارج عن المسلمين»، بل يجب أخذ المسألة على عاتقهم بالعمل على عقد مؤتمر عراقي في كربلاء، تدعى اليه -عن طريق الخالصي- النخبة من وجهاء المجتمع وشيوخ العشائر العراقية كافة للحضور اليها قبل مناسبة زيارتها بأيام قلائل.
ردَّ الخالصي بأن أرسل مبعوثين شخصيين وقام بتأليف لجنة خاصة مهمتها الاشراف على اعمال المؤتمر وتنظيم المسودة الاولية لمقرراته، كانت برئاسة نجله الاكبر الشيخ محمد، وعضوية كل من (نور عزيز الياسري وابن عمه علوان الياسري، ومحمد باقر الشبيبي، وعبد الحسين الجلبي، وكان من اعمال اللجنة انها شكلت اربع لجان فرعية مساعدة اخرى ضمت الوطنيين الشباب من مدن الكاظمية والحلة والنجف الأشرف.
مارس السير برسي كوكس ضغطا على العاملين على المؤتمر في النجف الأشرف وابدى مخاوفه «من احتمال سقوط الملك في ايدي المتطرفين والشيعة» وعزز هذه المخاوف برسالة بعثها الى رستم حيدر (1889 – 1940) رئيس الديوان الملكي في (4 نيسان 1922) زعم فيها ان لديه معلومات استخبارية عن سعي اطراف خارجية معادية الى خلق صعوبات امام حكومة فيصل المدعومة من قبل بريطانيا، وانها تحاول استخدام علماء النجف الاشرف في مسعاها. وأضاف (كوكس) ان هدف التحركات التي تشهدها النجف لعقد مؤتمر في كربلاء ليس الدفاع ضد الواهبيين بل هو استدراج الملك فيصل الى حضور الاجتماع ثم اجباره على الطلب من الحكومة البريطانية منح العراق استقلاله التام حالاً.

نتائج تَقُضُّ مضجع الانتداب
وفي كربلاء استقبلت الطلائع الاولى للمشاركين في المؤتمر؛ إذ وصل وفد مدينة النجف الأشرف في صباح يوم (9 نيسان) الذي ضمّ عدداً من كبار علماء الدين والمجتهدين اللامعين والفضلاء، يتقدمهم: السيد ابو الحسن الاصفهاني، والشيخ محمد جواد الجواهري، والشيخ عبد الكريم الجزائري، والسيد محمد علي بحر العلوم، والشيخ عبد الرضا آل الشيخ راضي.
وبعد يومين من المباحثات وقّع المؤتمرون على وثائق تطالب الحكومة والشعب بالوقوف فوراً بوجه الهجمات الوهابية، ومن نظرة سريعة لاسماء الموقعين على تلك المضابط وانتماءاتهم المختلفة تتضح لنا اهمية المؤتمر باتساع القاعدة الجماهيرية التي حضرته، التي تحرك من خلالها المؤتمر، فقد قسمت العرائض المقدمة في الاجتماع بحسب الانتماءات الاقليمية للحاضرين فواحدة منها خصصت لرؤساء عشائر ما سمي بـ «الفرات الادنى» وتميزت احدى المضابط بكثرة الموقعين عليها من اعيان المدن ووجهائها والمبرزين فيها لا سيما في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية؛ اذ بلغوا اكثر من مائة وعشرين شخـصاً.

الدور القيادي للمرجعية
وكان للتحرك الشعبي النجفي في كربلاء نتائج اكثر اهمية على صعيد العلاقات العراقية – السعودية؛ اذ لم يكن بوسع الحكومة البريطانية تجاهل الامر بل استوعبت التأثير الشديد للمؤتمر على مشاعر العراقيين والملك فيصل، وخشي المندوب السامي برسي كوكس من ازدياد حالة التذمر والاستياء من الوزارة القائمة، لذا فقد أرسل برقية احتجاج لم تخلُ من التأنيب الصريح لسلطان نجد(عبد العزيز آل سعود) داعياً اياه الى «كبح جماح قبائله المولعة بالقتال لتجنب الاضرار بالمصالح البريطانية»، واقترح عقد مؤتمر توضع فيه تسوية لمشكلات نجد الحدودية مع العراق، تفصل مسألة تبعية القبائل والآبار والاراضي، وتوقف العنف بين الطرفين نهائياً، وأبلغه انه اذا اراد ان يظل حليفاً لهم فعليه الاستجابة للطلبات، والا فإنه سوف يجابه بموقف بريطاني حازم.
واظهر المؤتمر ايضاً الدور القيادي المهم للمراجع العليا من العلماء، وانها تتقدم بخطى ثابتة وتمتلك العزم الكافي للخروج من هذا العمل بنتائج اكثر ايجابية في مجال التصدي لهيمنة بريطانيا ورفض انتدابها على الشعب العراقي، والدليل على توجههم هذا قد ظهر في وقوفهم بحزم لمعارضة انتخابات المجلس التأسيسي وتحريمها، الذي أُريد منه اقرار معاهدة ليست متكافئة ولا شرعية. وكان من الطبيعي ان يصبح البريطانيون بعد المؤتمر اكثر ادراكاً بأن مدينة النجف الأشرف تشكّل ثقلاً دينياً كبيراً ومركزاً مهماً من مراكز التأثير في الرأي العام، وبؤرة ناشطة تغذي القوى الوطنية المعارضة للوجود البريطاني في البلاد، ولقد نُقل عن احد البريطانيين العاملين في العراق سنة 1922 ما نصه: «ان كل التحريض المعادي للبريطانيين يمكن العثور على اثر له في المدن المقدسة، كربلاء والنجف».

نشرت في الولاية العدد 84

مقالات ذات صله