الإبداع حكاية تسبق التاريخ

shutte10

عذراء عبد الجبار طاووس

إن من يطمح الى قراءة التاريخ البشري بأبعاده الإنسانية والقيمية عليه أن يقرأ ما أنتجته تلك الشعوب من حكايات وأساطير وحكم وأمثال،. فهي إن تفحصناها بشكل استقرائي نصل الى رؤية واضحة للكثير من الأمور الشائكة والمعقدة التي ترسم ملامحها.
وعلى الرغم من وضوح الصورة في الحكايات والأساطير والأمثال والحكم في نتاج الشعوب إلا انها تنضوي على معانٍ عميقة يكتشفها مسبار المتفحص الدارس للنسيج الداخلي وتكويناته وطبيعة أنسجته ووظائفها المؤدية للحركة الاجتماعية داخل هذه الشعوب .

ففي التاريخ الذي خطه لنا المؤرخون نجد ان سرد الأحداث ولاسيما الكبيرة والمؤثرة هو الملامح الأساسية في رسم الصورة لتلك الشعوب . وكل ما يلحق من نتاج تحليلي واستقرائي لهؤلاء المؤرخين لا يتعدى تشخيص الهيكل والصورة الخارجية لحركة الشعوب وما حل بها من أحداث وتداعيات وتغييرات.. في خطوطها العامة وحسب.. أما في النتاج الإنساني الثقافي والأدبي فاننا نقرأ ونحس، فنعيش كل لحظة بكل تفاصيلها وانثيالاتها وتساميها وانحطاطها فنكون حيث تغلغلت وتنفست وأكلت وشربت حتى ننفذ لأحلامها حين تصحو وأطيافها حين تنام.. نعيش الحرب والسلم من غطاء المهد الى رائحة البارود حين ينفجر في سوح الوغى وحين يبتل إذا فاجأه المطر, حتى نتعرف على جميع الإجابات التي تشغلنا وتشغل إنسان تلك اللحظات والأيام والسنين وما بها من ابتسامات وأحزان وموت وولادة.. نقف على كل جرح، نرى ونتحسس ونواسي نزفه وألمه، فننتقل الى هناك بأفكارنا ومشاعرنا الى كل مرحلة من مراحل الوجود الإنساني.
من رحلته بين الكهوف والجدران الصلدة، الى الغابات وهو ممتطٍ جذوعها الشاهقة لجمع القوت، أو لكمين نصبه لوحش جاء يفترسه فغلبه بعقله وحيلته، فتلك الصور اوحت لنا تاريخ ذلك الإنسان بكل المعاني الملازمة للحياة مثلما أوحت لنا حكايات ازمنة اخرى بعدت عنا، أو في أماكن أخرى تنقلت بها الحكاية والأمثال والأساطير.
وتعطي تلك الحكايات والأمثلة والأساطير والملاحم آراء وإجابات وأفكارا لكثير من التساؤلات التي تتعلق بكل تفاصيل الحياة فيها بل قد تجيب على أسئلة لفلاسفة ومفكرين وباحثين تعبوا من الطرق على ابواب السؤال لنيل هذه الإجابة الجميلة المنسقة في قالب من الفن والإبداع الجمالي غير الناضب.

الإبداع والجمال قوة محركة للحياة
عاش الإنسان صراعاً وجودياً منذ اللحظة الأولى التي أبصر فيها نور الحياة، فقد صادفته مخاطر وأهوال، وواجهته طلاسم ظلت ترهبه وتجعله دائم الحيرة والخوف والتأهب استعداداً لأي طارئ.
فتعطي الحكايات والأمثلة والأساطير والملاحم اجابات عن ماهية بعض المعاني الإنسانية أو تنزع نحو الجمال إذ تعطي مبررات وجوده وانطلاقه كقوة محركة للحياة ذات قيمة تفوق التصور، وتعطي أحيانا سببا للعلاقة بين الفن وصاحبه ووبينه وبين الآخرين في علاقة مبررة أو قد يصعب تفسيرها لما قد يخسره المبدع والفنان في طريق انجازه ونتاجه المبدع هذا.
وعلى سبيل المثال، ففي كثير من الحكايات يظهر بعض الحرفيين المبدعين كناسجي السجاد القاشاني في بلاد فارس أو نقاشي الأحجار والمعادن الثمينة في بلاد الهند والسند، وهم يعيشون فقرا مدقعا دونما مبرر مادي يدعوهم لذلك إلا ان الحكايات تجد دائما ما يبرر الاستمرار بهذا العطاء الثر الذي لا يجد تقييمه المادي دائما.
فثمة نفعله وننتجه ونبيعه أحيانا ما هو أثمن وأغلى من المقابل المادي الذي نأخذه بدلا عنه، فتتعرض الحكايات الشعبية الى هذه التضحيات والقيم السامية من خلال استعراض شخصية المبدع وسيرته داخل الحكاية، لتتقرب شيئا فشيئا الى سر الإبداع وماهية الجمال وسبله للتفوق على القبح وان جاء بخسارات محسوسة مرحلية .

الحكاية سيرة حياة مبدع
لقد تمكنت الحكايات من رسم لوحات معبرة عن مكامن غامضة في حياة المبدعين فضلا عن قدرتها على تحريك تلك الصور الخلابة في اطار حياة هؤلاء وما يعانونه من حصار للعادي والتقليدي عليهم وعلى نتاجهم الإبداعي أقل ما يناله البخس والسخرية والتعالي، ومثال على ذلك، فقد لخص الكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن حياته وحياة الكثير من المبدعين ذوي المواهب الفذة في حكايته «فرخ البط القبيح» أولئك المبدعون الذين لم يستطع المجتمع ان يفهمهم كما هم فضلا عن عدم فهم ماهية وقيمة الإبداع والجمال الذي ينتجونه، فكانت سمة الشخصية البطلة: البطة من نوع يختلف عن الأخريات اللواتي يحطن بها، فولد ذلك الفرخ مختلفا، فناله من الاحتقار والتعالي والنبذ الكثير، إلا ان نهاية الحكاية تبين ان فرخ البط هذا ما هو إلا فرخ طير رائع الجمال هو طير « التمّ». وبهذا أوضح اندرسن في حكايته هذه مأساة الإبداع والمبدعين الذي يأتي على الدوام مختلفا عن الطبيعي المألوف .. فهو مبدع جميل لا يضاهى بأي شيء عادي .
ولا ننسى ان في الحكايات الكثير من سير الابطال والمبدعين الذين يعيشون أناساً عاديين جدا في وسيلة حياتهم، بل قد يكونون الأقلين حظا في حياتهم تلك، على الرغم من عظم نفوسهم وحجم عطائهم الذي قد يلامس الخيال في عظمته وفي عطائه للمجتمع.

رد الاعتبار للمبدعين والإبداع
وبعض الحكايات تدافع عن الفن والجمال وسحر العطاء الفذ، وبذلك فانها تعيد الاعتبار للفنان كمنتج اجتماعي وصانع ضروري للحياة لا عالة أو شكل من أشكال الشذوذ والانحراف والتشوه يأخذ مساحة من حياة الناس عبثية لا قيمة لها .
فعالج الحكواتي الشعبي ما كان يظنه بعضهم من ان الحياة يمكنها الاستغناء عن الإبداع والجمال، فيضعهما كحجر زاوية فيها، وهما ترياق ينسل مع النسغ الصاعد للأشجار ليجعلها تعلو وتثمر، ويمد جذورهما بالأرض لتثبت وتزداد خصوبة، فيكون الفن والجمال وظيفتين أساسيتين في الحياة .
ما كان يخطر في بال الفنان الشعبي أن يفصل الفن عن حياة الناس، فالفن عنده جزء من هذه الحياة تغذيه وتغنيه ويغذيها ويغنيها، يضرب جذوره عميقاً في تربتها فيزداد ازدهاراُ ويزيدها خصوبة، وهو يتخذ الفن حرفة جميلة ونافعة، ومن ثم فان للفن وظيفة اجتماعية.
فهكذا كان قديما هو الإبداع وكما صوره لنا المؤلفون في حكاياتهم، وهو سيستمر هكذا ما دام بالحياة عرق ينبض، وفيها ذلك الإنسان المبدع شجاعاً شهماً منتجا للجمال والسعادة ، وهي الحياة هكذا دائما لا تلوي على فراق من يؤجج بها المعاني والقيم الجميلة لتستمر شابة نضرة نشطة لها القدرة على البناء والعطاء والخصب والنماء.

نشرت في الولاية العدد 84

مقالات ذات صله