أطباء عرب.. ابن أبي أصيبعة

الزهراوي

حمود حسين

مؤرخ عبقري لتاريخ الطب والأطباء في الحضارة الإسلامية، موفق الدين أحمد بن القاسم بن خليفة، الحكيم الخزرجي الذي يكنى بأبي العباس، ويلقب بابن أبي أصيبعة،
كان عالماً بالأدب والطب والتاريخ ، ولأنه أحب أن يجمع بين ممارسة الطب والتأليف، فقد انتج مؤلَّفه ذائع الصيت: (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، الكتاب الذي خلَّد ذِكْر ابن أبي أصيبعة.

اسمه وولادته:
هو مُوفَّق الدِّين أبو العبَّاس أحمد بن سَديد الدِّين القاسِم، من الاسر العربيَّة وكانت ثرية، اشتُهرت بالطبِّ والأدب، ففي أيَّام الحُكم الأيُّوبِي، مارسَ بعضُ أفرادها الطبَّ وقد برعوا فيه، كما عُرِفت بمحبَّة العلوم والآداب، وكان لها صِلاتُها الجيِّدة بالملوك في بلاد الشَّام ومصر، فتوفَّرت للعالم مُوفَّق الدِّين أسبابُ التَّحصيل، وموفَّقُ الدِّين هو من أشهرُ أفراد هذه الأسرة.
وُلد ابنُ أبِي أُصَيبعة بمدينة دمشق سنةَ 595 هـ/1200 م وتوفي في جبل صرخد إحدى مدن جبل حوران سنة (668هـ/1270م)، وكُنِّيَ بأبِي العبَّاس قبلَ أن يُطلقَ عليه لقبُ جدِّه ابنُ أبِي أصيبعة.

نبذة من سيرته:
لقد كان لأسرة ابن أبي أصيبعة دور كبير في نشأته؛ إذ اشتهرت بالعلم والأدب، وكان لها صِلاتها الجيدة بالملوك في الشام ومصر، فتوافرت له أسباب التحصيل، فدرس الأدب والحكمة والعلوم على مشاهير عصره من العلماء في كل من دمشق والقاهرة، وتلقَّى الطب عن والده الذي كان طبيبًا يعالج الرمد في دمشق، وعلى يد عمِّه الذي كان عالمًا في العلوم الطبية،وتتلمذ أيضًا على يد الطبيب الدمشقي المشهور بابن الدخوار (ت628هـ/ 1230م)، وأخذ علم النبات والعقاقير من ابن البيطار (ت646هـ/1248م)، وقد أتمَّ العلم في المارستان الناصري في القاهرة، الذي التقى فيه بزميله علاء الدين أبي الحسن بن النفيس (ت 687هـ/1288م)، ثم انتظم في خدمة الدولة الأيوبية، وكانت شهرته قد وصلت إلى صرخد، فأرسل حاكمها في طلبه، فرحل إليه وظلَّ بها إلى أن توفي .

من سيرة استاذه الدخوار
ومارسَ الطبَّ مُتمرِّناً في البيمارستان النُّوري، الذي كان يرأسُه الطبيبُ الشَّهير مهذَّبُ الدِّين عبد الرحيم بن علي الدِّمشقي، المشهور بابن الدِّخوار: (مُهذَّبُ الدِّين عبد الرَّحيم بن علي هو الشَّيخُ الإمام الصَّدر الكبير، العالِم الفاضِل مُهذَّب الدِّين أبو محمد عبد الرحيم بن علي بن حامِد، المَعروف بالدِّخوار. كان أوحدَ عصره، وفريدَ دهره، وعلاَّمةَ زمانه، وإليه انتهت رئاسةُ صناعة الطبِّ ومعرفتها على ما ينبغي، وتحقيق كُلِّياتها وجُزئيَّاتها. لم يكن في اجتهادِه من يُجاريه، ولا في عِلمه من يماثله، أتعبَ نفسَه في الاشتغال، وكدَّ خاطِرَه في تحصيل العلم حتَّى فاقَ أهلَ زمانه في صناعة الطبِّ، وحظيَ عند الملوك، ونال من جهتهم من المال والجاه ما لم ينله غيره من الأطباء إلى أن تُوفِّي. بهذه الكَلِمات بدأَ ابنُ أبِي أُصَيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطبَّاء» حديثَه عن مُهذَّب الدِّين عبد الرَّحيم بن علي، كانَ مَولِدُه ومنشؤه بدمشق، وكانَ أبوه عليُّ بن حامِد كَحَّالاً (طَبيب عيون) مَشهوراً، وكذلك كان أخوه وهو حامِد بن علي كحَّالاً. بَدأ الحَكيمُ مهذَّبُ الدين حياتَه الطبِّيَّة كَحَّالاً، لكنَّه واظبَ على الاشتِغال والنَّسخ، وكتب كتباً كَثيرة بخطِّه، قاربت نحو مائة مُجلَّد أو أكثر في الطبِّ وغيره.)، ثمَّ انتقلَ إلى القاهرة، فطبَّب في البيمارستان النَّاصري سنةَ 631 هـ، وفيه استفادَ من دروس السَّديد ابن أبِي البيان، الطبيب الكحَّال ومؤلِّف كتاب الأقرباذين المعروف باسم «الدُّستور البيمارستانِي»، وأخيراً عادَ إلى دِمشق سنةَ 634 هـ ليتابع تَطبيبَه في البيمارستان النُّوري. وفي ربيع الأوَّل سنةَ 634 هـ/1236 م انتقل إلىَ صرخد (صلخد اليوم) ليعملَ في خِدمة أميرها عزِّ الدِّين أَيبَك المعظَّمي، وتُوفِّي فيها. وبذلك، نشأَ ابنُ أبِي أُصَيبعة في بيئةٍ حافلة بالدَّرس والتَّدريس، والتَّطبيب والمعالجة، إذ درسَ في دمشق والقاهرة نظرياً وعملياً.

آثاره:
اشتُهر ابنُ أبِي أُصَيبعة بكِتابه الذي سمَّاه «عيونَ الأنباء في طَبقات الأطبَّاء» الذي يعدُّ من أمَّهات المصادِر لدراسة تاريخ الطبِّ عندَ العرب. ويُستَشفُّ من أقوال ابن أبِي أُصَيبعة نفسه أنَّه ألَّفَ ثلاثةَ كتبٍ أخرى، وهي:
كتابُ حِكايات الأطبَّاء في عِلاجات الأدواء، وكتاب إصابات المنجمين،وكتاب التَّجارب والفوائِد.

عيون الأنباء في طَبقات الأطبَّاء:
استَهلَّ ابنُ أبِي أُصَيبعة كتابَه «عيونَ الأنباء في طَبقات الأطبَّاء» بمقدِّمة فلسفيَّة ودينية واجتماعية، تناولَ فيها مَكانة الطبِّ بين العُلوم والصِّناعات المختلفة، والكتاب مرتَّبٌ في خمسة عشر باباً بحسب بلاد الأطبَّاء وتَعاقُب طبقاتهم؛ وقد جعلَ البابَ الأوَّل للحديث عن كيفيَّة وجود صناعة الطبِّ وأوَّل حُدوثها، ثمَّ تَحدَّث عن طبقات الأطبَّاء الذين كانت لهم مؤلَّفاتٌ في صناعة الطبِّ، وتحدَّث عن الأطبَّاء اليونانيين، ثمَّ استوفى الحديثَ عن الأطبَّاء في الديار الإسلامية، ورتَّبهم بحسب أقاليم الدولة الإسلاميَّة المشرقيَّة منها والمغربيَّة. وأصبحَ مَرجِعاً أساسياً في تاريخ الطبِّ.
ويعدُّ كِتابُ ابن أبِي أُصَيبعة هذا أشملَ الكُتُب التي وُضِعت في تاريخ الطبِّ والأطبَّاء، قبلَ الإسلام وبعدَه، وهو مَوسوعةٌ نقلَ فيها المؤلَّفُ مَعلوماتِه عن مَشاهير عصره، جامعاً ما تفرَّقَ في الكتب الكثيرة عن حُكماء القدماء وعُلَماء العَرب والإسلام الذين عملوا بالطبِّ، من عَهد الإِغريق والرُّومان والهنود إلى عام 650 للهجرة. وتحتوي الموسوعةُ على ترجمةٍ لما يزيد على 400 طَبيب وحكيم من كبار عُلَماء الإغريق والرُّومان والهنود والعَجم والسريان والنَّصارى وأطبَّاء فارس والعراق والشَّام ومصر والمغرب العربِي والأندلس.
يَقولُ ابنُ أبِي أُصَيبعة عنه في مقدِّمة الكتاب: «وقد أودعتُ الكتابَ أيضاً ذكر جماعةٍ من الحكماء والفلاسفة ممَّن لهم عناية بصناعة الطبِّ، وجُمَلاً من أحوالهم ونوادرهم وأسماء كتبهم، وجعلتُ ذكرَ كلِّ واحد منهم في الوضع الأَليَق به على حسب طبقاتهم ومراتبهم».
وبهذا الولع العظيم بالتاريخ والتعمُّق التامِّ في الطب، مزج ابن أبي أصيبعة بين العلم والتاريخ، فأخرج كتابات رائعة عن الطب والأطباء، وحفظ الأمجاد التاريخية والحضارية للأمة الإسلامية.

نشرت في الولاية العدد 85

مقالات ذات صله