دعاء ظافر
كما نعلم ان كتاب نهج البلاغة بحر فياض لا تنتهي كنوزه ولا تضمحل غنائمه، يمثل القيم الانسانية والرسالة الالهية، والانوار المحمدية، بابعادها المختلفة، كيف لا؟ وهو يحوي كلمات باب العلم، ودليل الهداية، وميزان الحق وماء القلوب ونور الابصار.
ومن درره العظيمة وصيته التي كتبها لابنه الامام الحسن(عليه السلام) عند انصرافه من صفين، هذه الوصية التي تمثل مدرسة عظيمة، يجتمع فيها تراكم التجارب الانسانية، وعصارة الرسالة الالهية.
بدأ امير المؤمنين عليه السلام وصيته العظيمة بقوله: «مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِي الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ الْمُسْتَسْلِمِ لِلدُّنْيَا السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى وَالظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لَا يُدْرِكُ السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ غَرَضِ الْأَسْقَامِ وَرَهِينَةِ الْأَيَّامِ وَرَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ وَعَبْدِ الدُّنْيَا وَتَاجِرِ الْغُرُورِ وَغَرِيمِ الْمَنَايَا وَأَسِيرِ الْمَوْتِ وَحَلِيفِ الْهُمُومِ وَقَرِينِ الْأَحْزَانِ وَنُصُبِ الْآفَاتِ وَصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ وَخَلِيفَةِ الْأَمْوَاتِ».
عندما اراد الامام امير المؤمنين عليه السلام ان يشرع بالوصية لابنه الامام الحسن عليه السلام، كان من الطبيعي ان يبدأ بتعريف هذه الدنيا التي تمثل الساحة التي يعيش فيها الانسان، وما هي ظروف هذه الساحة ومخاطرها وعلاقة الانسان بها؟ لأن الانسان اذا عرف هذه الساحة وطبيعتها ومقدار علاقته بها، فان ذلك كله سيحدد له السلوك والمسار في هذه الدنيا، وهذا في الحقيقة تاسيس لكل ما يأتي بعد ذلك من الوصية.
وفي شرح الامام عليه السلام لهذه الدنيا وطبيعتها وعلاقة الانسان بها اشار الى جوانب متعددة منها ما يلي:
أولا: مخاطر الحياة:
ان الانسان في هذه الدنيا يواجه العديد من التحديات التي تواجهه، وهي تحديات متعددة ومتنوعة، ومعرفتها بداية الطريق لتجهيز النفس لمواجهتها، فيبيّن لنا امير المؤمنين عليه السلام حال الانسان في هذه الدنيا فيصفه في وصيته المباركة بانه:
– رهينة الايام: وكما نعلم ان الرهينة هو الاسير، فالانسان اسير لهذه الايام، تتحكم به وبمصيره، كما ان الاسير لا يعلم ما يكون مصيره، بل امره بيد آسره، فكذلك حال الانسان في هذه الدنيا، هو اسير لما يمر عليه من الايام.
– غرض الاسقام: يذكر لنا امير المؤمنين ان الانسان كالهدف لآفات الدنيا واعراضها، ومن النادر ان يسلم من الاصابة بمرض ما، بل نحن نعيش اليوم برغم التطور الطبي حالات مرضية جديدة، وامراضا لم نكن نسمع بها من قبل.
– نصب الافات: والآفة هي العاهة التي يصاب بها الانسان فتعطل له بعض حواسه ولا يتمكن من العيش كسائر الناس، وكل انسان هو في معرض الاصابة فيها، فلذا كان الانسان نصبها أي لا يفارقها، والافات هي من الامور التي يبتلي الله بها عباده ليختبرهم فيعرف درجات ايمانهم، ومقدار صبرهم.
– رمية المصائب: ويواصل الامام عليه السلام وصف حال الانسان في الدنيا فالرمية هي عبارة عما يرمى، فالمصائب تجعل من هذا الانسان اداة ترمي بها، والمصائب التي تحل على هذا الانسان عديدة وكثيرة، وتعظم احيانا وتصغر اخرى، ولكنها جميعها تقذف هذا الانسان من حيث لا يحب ولا يريد.
– تاجر الغرور: ثم يصف مولانا امير المؤمنين عليه السلام الانسان المتعلق بهذه الدنيا بأنه كالتاجر الذي يظن الربح فيما يقوم به في هذه الدنيا، فهو يحسب ان ما يقوم به مما فيه مكاسب دنيوية هو امر خالد وسيبقى، مع ان الدنيا كلها فانية لا بقاء لها، وخير شاهد على كون هذا الشخص ممن اغتر، هو انه يخاف الموت، وذلك لانه يرى فيه انقطاع كل ما سعى اليه، وبذل في سبيله كل غال ونفيس، ومن افضل الاوصاف لذلك هذه الرواية عن امير المؤمنين عليه السلام حيث قال: انكم ان رغبتم في الدنيا افنيتم اعماركم فيما لا تبقون له ولا يبقى لكم.
الانسان حليف الهموم وقرين الاحزان
ثم يصف مولانا امير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته المباركة الانسان في هذه الدنيا بأنه حليف الهموم وقرين الاحزان، والهم يصيب الانسان عندما يتملكه القلق والخوف من فقدان محبوب ومرغوب، فالغني يحمل هم وخوف الخسارة والفقر، وصاحب المكانة الاجتماعية يحمل هم خسارتها.. ويتملكه ايضا عندما يستهدف تحصيل هذا المحبوب والمرغوب فهو بين هم فقدان ما لديه لانه رهينة الايام، وهم تحصيل ما يستهدفه لان الدنيا كماء البحر الذي لا يشبع منه ولا يتوقف عند حدود معينة من الطلب بل سيبقى يركض
ويلهث وراء ما لم يحصل عليه حتى الان ، وهو قرين الاحزان لشعوره بالنقص والخسارة، فالذي لا يملك يحزن لانه لا يملك، والذي يملك ويخسر يحزن لخسارته، والذي لا يملك ولم يخسر بعد يحزن لعدم ملكه ما هو خارج عن يده فالانسان في هذه الدنيا كانه متحالف مع الهموم ومقترن مع الاحزان، في أي وقت كان وضمن أي اطار.
ثانيا: التعلق بالدنيا:
على الرغم من ان الدنيا مكان المصائب والابتلاءات وعلى الرغم من كونها لا ربح دنيوي حقيقي فيها، نجد ان الكثير من الناس ارتبطوا بهذه الدنيا وتعلقوا بها بشكل يتنافى مع صفاتها الحقيقية، وكان وصف امير المؤمنين عليه السلام لهذه العلاقة بعدة عبارات:
ـ عبد الدنيا: لأنه اعظم وصف لهذا الانسان الذي يتعلق بهذه الدنيا، انه يتعلق بها الى حد العبودية لها فهو على استعداد تام للقيام بكل ما يسهل له سبيل الوصول الى ادراكها ونيلها.
ولكن المأساة انه يعبد ما لا ينفعه الا بنحو مؤقت، بل يعبد ما هو في ظاهره جميل وفي باطنه قبيح الى حد وصف امير المؤمنين عليه السلام لها بقوله: جيفة قد افتضحوا بأكلها.
ويصف الامام عليه السلام هذا الشخص العابد لهذه الدنيا بقوله: قد خرقت الشهوات عقله، واماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه، فهو عبد لها، ولمن في يديه شيء منها، حيثما زالت زال اليها، وحيثما اقبلت اقبل عليها.. وقد يتساءل البعض ما هي الوسيلة للتحرر من العبودية للدنيا؟ والجواب عن ذلك ان افضل وسيلة للتحرر من هذه العبودية للدنيا هي بالابتعاد عن لذائذها، وقد ذكر ذلك الامام الخميني في (الاربعون حديثاً): اعلم ان ما تناله النفس من حظ في هذه الدنيا، يترك اثرا في القلب، وهو من تاثير الملك والطبيعة، وهو السبب في تعلقه بالدنيا، وكلما ازداد التلذذ بالدنيا، اشتد تاثر القلب وتعلقه بها وحبه لها ،الى ان يتجه القلب كليا نحو الدنيا وزخارفها.
ـ صريع الشهوات: انه الانسان المستسلم لشهواته فهو قد صارع اهواءه بنفسه لما دعته اليه، ولكن الغلبة والنصر كانت للشهوة وللنفس الامارة على العقل وعلى النفس المطمئنة، ان العقل متى ما انهزم امام الشهوة اصبح أسيرا، وقد ورد عن الامام علي عليه السلام قوله: «كم من عقل اسير تحت هوى امير»، ويكفي للانسان لكي ينصر النفس المطمئنة على النفس الامارة، وليجعل من الشهوة صريعة، ان يفكر في عاقبة الشهوة، وقد ورد عن امير المؤمنين عليه السلام قوله: اول الشهوة طرب، واخرها عطب.
ثالثا: الدنيا ممرّ:
ان اجلى واوضح حقيقة للدنيا انها غير دائمة، وانما زائلة، وان الانسان مهما سعى وحصل فيها واغتر بمفاتنها، فانه في نهاية الامر سيتركها ليدخل في تلك الحفرة الصغيرة نافضا يديه من كل ما فيها، فالانسان في الحقيقة هو:
– غريم المنايا واسير الموت: ان حال الانسان مع الموت، هو حال الشخص المدين، الذي حل وقت ادائه الدين، ولكنه يسعى للفرار من الدائن، ويخاف ان يلتقي به، فالموت هو اشد ما يخاف منه الانسان، وهو الذي يلاحق هذا الانسان: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)-الجمعة/8-
ـ خليفة الموت: انها اوجز عبارة تدفع الانسان لترك التعلق بهذه الدنيا، فاذا فكر الانسان في ان كل ما يصل اليه كان مع من سبقه وهو ورثه منه، واما ذلك الميت فقد انقطع عنه، ولم يعد ينتفع به عرف كيف يحسن التصرف به بما يكون نفعه له في يوم القيامة، فالميت يرحل ويرثه حي اخر، وهذه سنة البشر منذ ان خلق الله عز وجل آدم الى يوم القيامة.
كل هذه الصفات التي اوردها امير المؤمنين عليه السلام ليصل بنا الى نتيجة باتت واضحة، خلاصتها ان هذه الدنيا ليست اهلا لان تكون هدفا نهائيا للانسان، ربما تكون متاعا يستفيد منه في ايامه هذه، وطريقا يسلكه الى آخرته التي تنتظره ولكنها بالتأكيد ليست الهدف الذي ينبغي على الانسان ان يدور في فلكه واذا حدد الانسان هدفه هانت المسيرة بعد ذلك.
نشرت في الولاية العدد 86