صحافة نجفية: النقد وآثاره

الصحافة-النجفية

بقلم الاستاذ عز الدين ال ياسين

ظهرت بواكير الصحافة في النجف الاشرف منذ سنة 1910م، وبالرغم من قلة الموارد وحداثة التجربة آنذاك، الا انها حققت قفزات نوعية نافست التجارب الصحفية على المستوى الإقليمي، إذ واكبت الأحداث العالمية أدبا وسياسة وثقافة، وبلورت الهموم والآمال التي يحملها المفكرون تجاه الأمة.
وفي هذا الباب تقدم لكم (الولاية) سلسلة مختارة من المقالات المنشورة في مجلات النجف القديمة إحياءً لهذا الإرث الإعلامي الخالد، ووقوفاً على معالم من تفوّقه الذي عجز كثيرون في هذا الزمان عن مجاراته.

النقد هو استعراض المحاسن والمساوئ وبحثها ودراستها، ثم ابراز رأي فيها او فكرة عنها في غير اغراق في جانب التجريح، ولا اسراف في جانب التعديل، فليس نقدا ان يعمد الرجل الى ندّه فينعى عليه سقطاته ويعد له غلطاته، ويوغل في استكشاف عيوبه واخطائه بدون ان يتعرف له بحسنى ويستحسن له صوابا او يسمح له بقليل من تقريظ وان كان له مستحقا وبه جديرا، وليس نقدا ايضا ان يعمد الناقد الى صاحبه فيكيل له ما شاء، وشاء له اخلاص من ثناء واطراء، مقرا هفواته غاضا عنها متناسيا اياها.
والنقد يختلف قيمة ووجهة وعمقا وصحة باختلاف قيم الناقدين ووجهات نظرهم وباختلاف ثقافاتهم وكفاياتهم وحظوظهم من عفة اللسان ونزاهة الضمير وطهارة القلم، وكلما كان الناقد بريء اللسان عف القلم نزيهه، خصب التفكير رزينه، كان نقده اشبه بالحق واقرب الى محجة الصواب.
اما ان تلجأ الى النقد خالي الوطاب الا من الايقاع والشتم والسباب بحكم ضغينة دفينة أبو بوحي خصومة قديمة فأنت هازل عابث ولست من الناقدين في قليل ولا كثير، ومن هنا قال الادباء: (انظر الى ما قيل لا الى من قال).
ويجب ان يكون النقد بريئاً من أي حافز عاطفي، والناقد البارع هو الذي يقول او يكتب ما يمليه عليه حب المصلحة في نظره او نظره الى الحق والصواب ولذلك فالناقد مطالب بان يصطنع الأناة والهوادة ويفحص دريئة نقده فحصا دقيقا ويلم به من سائر اطرافه الماما مشبعا ثم يتقدم بملاحظاته في هدوء ولين على ضوء المنطق والرزانة بعيدا عن وحي العواطف والاهواء.
وليس من ادب النقد في شيء ان تنبعث للتشهير بفكرة او الطعن في نظرية أو النيل من خلق أو الاستخفاف بعادة لا لأنها حقيقة بالطعن خليقة بالمؤاخذة بل لمحض انها تصطدم بذوقك او رأيك او عقيدتك أو لأنك لا تعرف عنها شيئا.
ومن واجب الناقد ان يعرض للنقد صريحا (على المكشوف) إن صح هذا التعبير ولست اعني بذلك ان يتحلل من آداب الحوار والنقاش، ولكني أريده ان يلجأ الى ملاحظاته ومطالعته في دقة واستقصاء وفي وضوح وجلاء ثم يعمد الى تدعيم نقدته بأدلة واضحة بريئة من المراوغة والغموض واللف والدوران، وقد يكون هذا من الخير للناقد ان يطلع منقوده على اوجه الصواب (فالعلم كله في العالم كله).
وعلى الناقد أن يعرف شخصية نده فيقيم لها وزنها ويقدرها قدرها في غير اجحاف ولا اسراف (ورحم امرأ عرف قدره فلم يتعد طوره).
ومن الحمق ان تنقد غيرك بخلة هي فيك وقديما قيل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك اذا فعلت عظيم
وعلى الناقد ان يخضع للحق اذا وجده عند خصمه (فالحق احق ان يتبع) (وخذ الحكمة من أي وعاء سقطت).
ولأن يكون نقدك ناضجا خميرا، خيرا من ان يكون فجا فطيراً.
آثاره:
هو الوسيلة الفذة لتطهير المجتمعات الموبوئة وانقاذها من براثن المفاسد والمنكرات والشرور، وارشادها بشكل جدي عملي الى طرق الخير، ومكارم الاخلاق ومحاسن الآداب.
وهو لقاح العقول وقسطاس الحقائق فالحقيقة كما يقولون بنت البحث، يريدون انها وليدة احتكاك الآراء والاخذ والرد وما الى ذلك مما يقدح زناد الحقائق المدفونة ويفتح كنوز العلوم المقفلة ويظهر اسرارها المعماة.
وهو الى ذلك وقود النهضات الاجتماعية وهل تقوم نهضة او تنشد حركة بدون ان ان تهب عاصفة من النقد موفقة رزينة؟
فالنقد.. والنقد الحكيم وحده هو الذي نظم الامة ودساتيرها ظهرا لبطن فيستبدل بها خيرا منها نظما يوحيها (العقل الجمعي) الذي يقهره المجتمع بعد اخذ الاصوات.
والنقد هو الذي يزن المجهودات العلمية والادبية بميزان عادل لا يعرف فضلا ولا تطفيفا وهو الذي يميز زائفها من جيدها وحسنها من قبحها.
فإذا اساءت امة فهمها للحياة وحادت عن الصواب في اساليب حياتها فمعنى ذلك انها مصغرة من النقاد المحنكين الذين ينشلونها من الترهات، ويأخذون بيدها الى محجة الهدى حيث السلامة والنجاة والعافية.

نشرت في الولاية العدد 86

مقالات ذات صله