عذراء عبد الجبار الياسري
يلجأ القاص البارع الى وسائله الإبداعية في تحبيب وجذب القارئ الصغير نحو عمله الأدبي، فالقاص المبدع لا تنقصه وسيلة الابتكار للأساليب التعبيرية الجديدة والطرق المدهشة المحببة لدى الطفل لإيصال ما يريد من رسائل وأهداف وقيم ودوافع سلوكية تنمي شخصية الطفل وتفتح له أبواب عالمه الواقعي من خلفية يغلفها الخيال الخصب والأحداث المشوقة، في بناء وحبكة وشخصيات تتفاعل لإحداث حراك الحدث الدرامي داخل القصة للوصول الى نهاية.
هي غائية النص المبدع وخلاصة الوعي المستحصل من تلك التجربة الحياتية حتى وان كانت خيالية ـ فهي حية في قيمها ـ ليعطي النص الإبداعي بغيته لأطفالنا أي مستقبلنا وامتدادنا الطبيعي للحياة.
القصة والحكاية وما بينهما:
وبالرغم من ان هناك اختلافاً بين القصة والحكاية الموجهة للأطفال، إلا انها تتوافق من حيث الهدف والفكرة والحادثة والشخصية والحوار داخل النص، ويكمن الاختلاف في بناء النص بشكل خاص، وفي كون الحكاية قد تتجاوز عالم الطفل الى مسافات أبعد بخلاف قصص الأطفال التي تتوجه بكليتها نحو عالمهم الخاص، وتتمرد الحكايات على طوق الزمان والمكان، فلدى الحكاية أجنحة أطول للتحليق لمسافات وعوالم وأزمنة وعصور أطول وأبعد مما تستوعبه قوانين بناء قصص الأطفال فهي لا تلوي الخروج عن أركانها البنيوية المتكونة من (الشخصية، ولغة التوصيل، والحدث، والحبكة، والنتيجة النهائية المحصلة) في حين قد تتجاوز الحكاية المنطق والقوانين الطبيعية، والشخصيات العادية قد تتحول الى شخصيات خيالية أو فنتازية وقد تتحكم قوانين وقدرات أخرى في الشخصيات والحوادث والأقدار منها السحرية والقدرية التي تقف الشخصيات داخل النص الحكائي في صراع معها أو في حلف خارق للطبيعة، فبهذا تكون قد اختلفت بنائيا عن القصة.
قواسم مشتركة ونقاط التقاء:
رغم انها تتوافق على اسلوب الوضوح والبساطة والسلاسة في تعاقب الحدث وتناميه ووصوله للذروة وفي انتقائية طرح الفكرة وإضفاء الجمالية الساحرة وجعل الأحلام واقعا مدهشا يتوافق مع رؤية الطفل للأشياء، فضلا عن عدم التعقيد في الرؤى ولغة الخطاب وصناعة المشهد.
وبذلك فان قصص الأطفال تكاد تنتمي فنيا للقصص القصيرة في تركيزها واختصاراتها ومباشرتها في طرح الفكرة وهذه الدلالة في حدثها الرئيس أو الأوحد النائي بالنص عن الغموض والتعقيد والانفعالات الشاذة والغرائز التي تخدش الطفولة والبراءة.
قاصون مبدعون:
ان قصص الأطفال أتت بعد تاريخ طويل من ولادة النص الحكائي، فالقصة اتكأت على الحكاية في أول بزوغ لها بل انها ولدت من رحمه، في أوربا على وجه التحديد، إلا ان هذا التأخر والتبعية لم يقفا عائقا أمام ولادة أسماء كبيرة ولامعة لأدباء برزوا في كتابة قصص الأطفال والقصة بشكل عام، فكان هناك القاص الأديب الروسي تولستوي، والقاص الإنكليزي تشارلز ديكنز، والقاص الأديب الدنماركي هانز اندرسن، والقاص الفرنسي جول فيرن، وغيرهم ممن وضعوا بصمة واضحة لهذا الجنس الأدبي وقدموا نتاجا انسانيا لا تكاد تنطفئ جذوته ولا تبرد. ومما لا مناص من ذكره ان هؤلاء المبدعين لم يكتفوا بقراءة النتاج الحكائي والقصصي العربي، بل ان الأمر تعدى الى تناص مفرط مع هذا النتاج متغلغلين الى اقتباس للشخصيات والأبطال والمشاهد والمواضيع، مستغرقين بالأنسنة في تلك الحكايات بشكل مبدع، متعدين إعادة الصياغات الى النسج المبدع الخلاق الموائم لروح العصر وأفكاره.
الأنسنة طريق توصيلي جمالي:
على الكاتب المبدع أن يستنهض ويؤجج حواس الطفل وتطلعاته وأن يستدرج فضوله نحو أمكنة جديدة يهيمن عليها الجمال والسلام الملهم، خالقا عوالم جديدة سواء كانت واقعية أو خيالية يستطيع الطفل ان يدخل اليها بسلاسة واستمتاع وهو يرتشف صوره ورموزه وشخصياته وطرائق حواره الممتعة القريبة أو اللصيقة بذائقة الطفل.
ومن السبل الناجحة في تلك الأعمال الفنية والنصوص الأدبية هي أنسنة الحيوانات والنباتات وكافة المخلوقات الحية والميتة كالحجر والماء والرمال والحصى وكل شيء يتناوله الكاتب في نصه القصصي والحكائي، وذلك بجعل شخوص الحكاية وأبطالها من الحيوانات وباقي المخلوقات. فيصبح المجتمع والمشهد الحكائي عبارة عن مجموعة من الحيوانات والأشياء التي تتكلم وتتحرك وتتمتع بصفات وعلاقات انسانية تدور ضمن حبكة النص وبنائه الدرامي وحواره، وهي أسلوب قديم استخدمه الكاتب والأديب العربي كقصص (كليلة ودمنة) وغيرها، ثم انتقلت الى خارج النطاق العربي تأثرا بهذا النتاج الإنساني الضخم.
نماذج من الأنسنة في القصة والحكاية:
ولنجاح هذا الأسلوب في أنسنة الأشياء فقد استمرت هذه الطريقة الإبداعية التي تستهوي الطفل والشخص البالغ بشكل كبير ـ وان تباين ـ لأن هذه الأنسنة لقربها من خيال الطفل وطريقة تفكيره أصبحت عنده أكثر متعة وإثارة، لما للفارق الطبيعي بينهما من حيث مستوى الإدراك وطبيعة الرغبة وحجم الخلفية الثقافية ومستوى الخبرات الحياتية.
ولكل قصة شخصياتها التي ترتكز عليها الأحداث والمعاني ومنها تتشكل الرموز والصور، أولئك هم الأبطال وباقي شخوص القصة، فتكون مثلا شخوص وأبطال قصة (الصقر والملك) لتولستوي هم الملك والصقر والأرنب البري والخدم، وشخوص قصة (حلم فراشة) للكاتب سعدي العقابي هم الأب والأم والأطفال الصغار والفراشة، وقصة الكاتب سالم شاهين (الساقية) أبطالها الساقية والأشجار والطيور، وحكاية الكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن «فرخ البط القبيح» بطلها طائر التمّ الذي يخوض تجربة مريرة من التمايز العرقي من مجتمع البط والطيور، هم شخوص هذه القصة الرائعة، وغيرها من القصص والحكايات التي كان أبطالها الأسماك وحيوانات الغابة والأشجار والطيور والجسور والجن والغيلان والحوريات والدلافين والسحرة والتنانين والسحب والشمس والقمر والى ما تشاء مخيلة القاص المبدع أن يكون.
عالم من خيال قد يكمن الخطر فيه:
ان الدخول لعالم القصة والحكاية هي إعادة بناء، بل خلق جديد لعوالم من نسج الخيال، لكن بأدوات ومواد بناء واقعية مفهومة وجميلة أخاذة، تلك العوالم الخيالية تفتح أبوابها للأطفال، وتمنحهم أجنحة للتحليق فيها والاستمتاع بالأحداث المثيرة التي تجري هناك، وبناء علاقات صداقة وتضامن مع أبطالها، فيشترك الأطفال بكل وجدانهم مع ملاحم ومعارك وأسفار هؤلاء الأبطال، وقد يتقمص الأطفال تلك الشخصيات المحببة خارج عالمهم الخيالي والذهاب بهم لأرض الواقع، لذا يكون من الضروري جدا توخي الدقة والحذر لاختيار تلك الشخوص وأولئك الأبطال، كيلا ينقلب السحر على الساحر. فتتحول عملية بناء وتنمية أفكار وإحساس الأطفال وتوجيهها الوجهة السليمة التي ترتقي بهم وتدفعهم للتفوق والنجاح في حياتهم بل قد تضع أقدامهم على طريق الإبداع والسمو فيتحول ذلك كله الى عملية هدم وتشويه لشخصية ونفسية الطفل، وبهذا يكون مستقبل المجتمع برمته مدفوعا الى خطر محدق.
نشرت في الولاية العدد 86