قصة قصيرة: وعاد الشباب مرتين

18729

فائق الشمري

بعد تلك الساعة التي تهاوى بها ذلك الكابوس، لم نعد نرى الحزن الذي ينتاب أبي مع كل اطلالة لشهر المحرم، عندما تنفس الصعداء وتوجه سريعا نحو مشعله متناسيا حكم العمر فأنزله بصعوبة بالغة بعد أن ركن بأعلى الدار أكثر من ثلاثة عقود، كنت اشاهد ذلك المنظر واتساءل مع نفسي:
ـ هل سيدور هذا الشيخ بمشعله من جديد؟
أبي كان واثقا من دورته، لكنه تناسى أمرا، فالمشعل يحتاج ليدور «الى اكثر من حُب».. فللعمر أحكام ..
وكأنه سمع همهمتي، فنظر اليّ بعد التفاتة سريعة من رأسه وهو يقول:
ـ ستحمله أنت.!
فاجأني بهذا الطلب، تلعثم لساني وأنا أحاول أن أستفهم:
ـ ستحمله أنت.. كررها ثانية.
ـ انا ساحمله..! وهل استطيع..؟
أجابني بوجه طلق وصوت متهدج:
ـ نعم تستطيع..
يا إلهي.. لم أحلم يوما ان أكون حاملا لمشعل، أعجبتني الفكرة بالرغم من انها جديدة علي ولم أرها إلا من خلال كلمات أبي، فهل سانجح في ذلك؟
في الليلة الأولى لمحرم.. كانت الأجواء تذوب بأنغام الحزن التي تطلقها مكبرات الصوت، تكسرت المهج وهي تتطلع «للبيارغ» التي عانقت السماء بالوانها المختلفة، يصغي الجميع لايقاع الزناجيل وهي ترتطم بالأكتاف العارية.. امتزجت آهات الشيوخ وحسراتهم بالدخان المتصاعد من المواقد التي غلى الشاي فيها وانسكب بأقداح متلهفة للثم شفاه صدحت عاليا:
«يا حسين»..
وأنا أتجول بينهم، كنت أقلب الماضي بكل آلامه التي حاكت ضفائره السنون العجاف، تراكمت برأسي الجماجم، وأحلام العذارى المؤجلة بعودة فتى الأحلام من خلف السواتر، الحروب تتصارع فيها النوايا والرغبات، فتموت الديكة بعد ان تخنقها طموحاتها بصوت أعلى من صوت المعركة، أتذكر صباي تلك الايام، ربيعي السابع، كان جل اهتمامي في مبراة تريح نعومة أظافري التي لم تفقد بريقها بعد، ولاتلتهم القلم من دون أن تجعل له رأسا مدببا، أو أرجوحة عيد في يوم ياتي وينتهي على عجل مع غروب شمس النهار..
للكبار في عائلتي عالم لا أفهمه..!
فهم طالما تضرعوا لله بان لا تلتهمني الحرب معهم بعد كل تحديقة في خطوط الطول والعرض التي رسمها القدر على أديم يدي، ولم أفهم تلك الأيام سبب غزارة دموع والدتي وهي تعقد حول معصمي شريط «الستان» الأخضر بعد أن تمسحه بشباك كانت تسألني ان أقبِّله بحرارة، فتلامس شفتاي السطح الأملس، لتستوقفني نعومته وعبير الرائحة العطرة التي تغرق المكان..
هكذا كانت طفولتي.. وها أنا الآن بعد أن دار الزمن دورته، وتراكمت السنون، رحلت الأيام رغم ثقلها، كنت أكبر مع همومي وطموحاتي، قوي عودي وهرم أبي، وباتت أحلامه بالية بعد أن تمكن منها الزمن وأنشب أظفاره بها وكنت أخشى أن أقول له:
«إن الشباب لا يعود مرتين»..
ولطالما قرأت بعينيه شوقه لغد افضل، وكأنه ادرك أن الوقت يلتهمه بكل آلامه، يعتصره ويندلق مع مواقد شاي عاشوراء التي رفستها الأحذية الثقيلة..!
أتذكر أبي في ذلك الموقف عندما وضع رأسه بين يديه وطأطأ وقد جلس القرفصاء بعد ان اسند ظهره لأحد جدران موكب العزاء، كانت الهراوات تنهال على المعزين، لم يمسح أبي شيئا من الدماء التي اختلطت بدموعه، كانا يسيلان على وجنتيه بغزارة، بكى ابي بألم وحسرة.. ولم أتخيل قبل هذا المشهد إن الآباء يبكون..!

***
ـ في السابق كانت المدينة تشتعل بنيران تلك المشاعل في الليالي الثلاث الاخيرة من العشرة الاولى من المحرم ..
هكذا كانت كلمات ابي، واضاف:
ـ علينا ان نعد انفسنا لها..
لم أرَ والدي بمثل هذا النشاط من قبل، كان يسابق الدقائق وهو يعد مشعله، وضع لفائف «الجنفاص» في سلال المشعل وادلق عليها النفط الاسود، وهو يردد:
ـ يرافق المشعل رَجُلان أحدهما في المقدمة والثاني في المؤخرة.. إنهما يدوران معه حيثما دار.. و«يتلقفانه» إذا وقع أو ارتطم بأحد..
فجأة توقفت يداه عن العمل والتفت الي وقال:
ـ لمشعلي ثلاثون رأسا، ستوقده وتتقدم الجموع واللهب يتعالى منه وسيهز الطبل جلده بعد كل ضربة من الهراوات على أديمه، عندها عليك أن تدور بالمشعل، واعلم ان المسألة ليست مجرد عضلات..!
كنت أصغي له باهتمام وهو يخبرني بهذه التفاصيل، كانت يداه تعمل بخفة عالية، ولسانه ماانفك يتحدث عن تجارب الماضي، عندها أيقنت أن الأمر كما قال، وتمثلت كلماته شاخصة امامي:
«إن الأمر يحتاج لأكثر من عضلات..!»
***
انطلقت المواكب والأجواء تختنق بأحزانها.. وكنت اغرق ومشعلي بين الجموع الزاحفة نحو مركز المدينة.. كانت تردد بايقاع الحزن همومها ومظلوميتها، فترتفع الاذرع نحو السماء وتتهاوى على الصدور.. وما إن تلبث قليلا حتى ترتفع ثانية..
كان أبي يصارع شيخوخته وهو يهز سيفه وفق ايقاع واحد تضبطه طبول الموكب وابواقه، وبعد كل حركة من تلك يصرخ الجميع بصوت واحد:
«حيدر»
لم تكن اللحظات قادرة على استيعاب قدرها ولم تستطع الدقائق ان تستمر، عندما انفجر الحقد بين المعزين، تطايرت الاشلاء وسقط العشرات، استقبلت صدورهم العارية الا من عاطفتها الشظايا، تعالى صوت الانفجار.. وتعالت معه الصرخات:
«يا حسين»
غرق الجميع من جديد بمظلومية رافقتهم مئات السنين، كان المشعل في تلك الأثناء يلتهب على كتفي ووجدت نيرانه تتعالى نحو السماء التي صبغ سوادها بلون الدم.
نجوت بأعجوبة و سقط الكثير بذلك الانفجار بين قتيل وجريح، وكان صدمة كبيرة لأبناء المدينة التي خيم عليها الحزن ذلك اليوم ولم تنم حتى الصباح.
ـ «رحل ابي.. بعد ان احتضن الموت بكلتا يديه وهو يردد حتى نفسه الاخير: ياحسين..»
هكذا أخبرت والدتي عندما سألتني عنه.. وماإن أنهيت كلماتي حتى اجهشت بالبكاء.. وضج البيت بالصراخ.
***
اليوم وبعد عام من ذلك الحادث.. حل محرم جديد بيننا وعاد الحسين مرة ثانية يتقدم الجموع الزاحفة حاملا رضيعه بإحدى يديه وبالأُخرى رأسه المخضب بالدماء..
أخذت مشعلي وانطلقت من جديد، اعترضت والدتي طريقي وأمسكت بمعصمي ومن ثم ربطته بذلك الشريط الأخضر ـ كعادتها في الماضي ـ وهي تتمتم ببعض العبارات ـ التي لم افهمها ـ بعد كل نفخة في وجهي، رمقتني بطرف عينيها وقالت:
ـ انتبه لنفسك..!
دار مشعلي ودارت معه هموم فَقْد الـ… وتوسلات والدتي بان لا أكون التالي في قائمة الشيطان، تجاهلت كلماتها ليقيني أن المنايا لن تقف أمامي حجر عثرة ومضيت بمشواري.
كانت النجوم تلك الليلة تلمع بشكل غريب وبدت أشد بياضا من ذي قبل، وكأني المح عيون أبي تبرق في كبد السماء وهي ترمقني بفرح..
امتلأت الأجواء برائحة شاي ( ابو علي) وهي تبحث بين زوايا المواكب عن الراحلين ولا تلبث ان تتصاعد نحو الأعلى لتتعقبهم خلف السحاب وتنسكب مع قطرات المطر.

نشرت في الولاية العدد 86

مقالات ذات صله