علي والأخلاق السياسية بين دولة الفتنة وفتنة الدولة

_M4G0394

إدريس هاني – المغرب

 لا يقف نبوغ علي بن أبي طالب (عليه السلام) عند حد، وفي الدولة وفكرها تظهر ملامح تلك العبقرية الفريدة، ساس علي الدولة الاسلامية في اخطر الظروف، وسلك بها في أوعر المنعطفات وترك تراثا من المحكمة السياسية غطّى بقوةٍ الفكرةَ وعمّق الفلسفة على كل ما رزح به التاريخ الاسلامي وما قبله من الآداب السلطانية، في فكر علي توجد نظرية الدولة والمعارضة، فهو جعل الحق فوق كل شيء، ثم هو من أوائل من أدرك أن الدولة في حد ذاتها حق، وان زوال الدولة هو من أنكر الفتن، ولقد تجاوز عليّ عن مواجهة العديد من وجوه الفتن، لكنه لم يكن يتأخر لحظة حينما تتهدد الفتنة دولة المسلمين، لأنه يدرك أن لا خطر كفتنة زوال الدول.

رائعة الأدب السياسي وفنون الإدارة
لقد كان الامام علي في زمن ما قبل نشوء الدولة، وما قبل بروز المؤسسات بمعناها الحديث، لكن هذا لا يعني ان جوهر اشكالية الدولة لها امتداد في عمق التاريخ، ولم يكن يومها من ضامن غير قوة الاخلاق السياسية واداب السلطان، والسلطنة، ولا تترك مدرسة علي في الاخلاق السياسية واداب الحاكم ثغرة، وهي تخلو من فتوق وثلم سائر السياسة، ويكتفي تامل عهده لمالك الاشتر الذي يمثل حالة فريدة من روائع الاداب السياسية وفنون الادارة وهي رسالة قائمة بذاتها، لا ادري ولا تدرون لم لم يتوج بها كل عهد سياسي في السابق واللاحق، ولعمري انها تفوقت على كل فذلكات الفكر السياسي فيما قبل وفيما بعد.
لقد مزجت بين الفلسفة السياسية للحكم والاخلاق السياسية، ولم تغفل جانبا لم تطرقه بحكمة نادرة الوجود، ولسنا هنا في مورد التفصيل اكثر في مفرداتها، لكننا ونحن نطوف حول المضامين الكبرى لهذا العهد السياسي، نتعرف على الرسالة السياسية لعلي بن ابي طالب، وندرك حينئذ ان العصر لم يكن يكفي للانتقال الى هذا الطور من النضج المعرفي والرشد السياسي، وهنا تكمن واحدة من اشكاليات الدين والسياسة، وهنا يقع العثار تلو العثار عند سائر النظار في هذه العلاقة ان التاريخ وحده ليس كفيلا بتحقيق التطور السياسي، نعم هناك حقائق تاريخية تفرض مسارا محددا لهذا التطور، لكن هذا لا يلغي الطفرة ويحدث في التاريخ ان مجتمعات ما تشهد تجارب مميزة في الادراك العقلي فتحدث فيها النهضات وثورات الفكر والمعرفة ثم في مرحلة اخرى يفيض عليها مما قد يستفيده الجوار وما بعد الجوار فالحضارة تبدأ من هنا.

علي عليه السلام كمين حضاري
وكما قد تشهد امة ما تجارب في الادراك العقلي تشهد اخرى نهضة في الادراك الديني، وكل هذا جدير باحداث التحول الاجتماعي، وللدين قدرة فائقة على احداث الطفرة الروحية والثقافية اكثر من أي عامل اخر الى حد يبدو فيه خارقا لقوانين التاريخ والاجتماع، الفكرة الحضارية كامنة في كل مواقف وافكار علي بن ابي طالب فقد كان العالم سيقتصد قرونا من التخلف السياسي لو انه تأمل عهد علي بن ابي طالب الى عامله مالك الاشتر، ولقد كان وهو يصلح دائما ان يكون مرجعاً للدستور والقوانين وعلم السياسة واخلاقها، لقد رسم علي خطوط سياسته من خلال هذا العهد لعامله على مصر، وهو عهده لمصر وغيرها، عهده لكل مصر يقول: هذا ما امر به عبد الله علي امير المؤمنين مالك بن الحارث الاشتر في عهده اليه حين ولاه مصر: جبوة خراجها وجهاد عدوها، واستصلاح اهلها، وعمارة بلادها.

مقومات النهضة عند الإمام علي
الخطوط العريضة لهذه السياسة تقوم عند علي بن ابي طالب على اربعة مقومات بها ينهض العمران البشري، الاول التدبير الاقتصادي وهو هنا يتمحور حول نمط التدبير المالي القائم على الجبايات بعدل والثاني يتعلق بالأمن الذي تستقر معه احوال البلاد ومنعتها، والثالث يتعلق بسياسة الاصلاح الاجتماعي الذي يتدبر امر الناس في احوالهم المعنوية والتربوية والرابع يتعلق بالتنمية والبناء والعمارة، وفي كل سياسة من هذه السياسات او قطاع منها تتجلى القضية المحورية في حركة علي السياسية والاجتماعية، الا وهي اقرار العدالة، وقد جاء عهده الى مالك الاشتر ليعطي تصورا عاما عن سائر هذه القطاعات بشيء من التفصيل يساعد على فتح العقول على موارد في الفكر السياسي لا تكاد تنتهي، يحذر علي عامله على مصر بان يراعي انتظارات الناس، فلا يرى نفسه اول من سيحل حاكما عليهم، بل لقد عرف الناس حكاما قبله وهم ينتظرون منه برنامجا سياسيا جديدا بل ان عليا يرسي ثقافة سياسية للمعارضة حينما تتسلم الحكم، فهو يذكر عامله بان الناس تنتظر منه وهو حاكم ما كان ينتظره هو من الحكام، ثم يذكره بان الرأي العام لا يخطئ في نقده للحاكم، بل ان رضا الشعب على الحاكم معيار صلاح الحاكم، فلقد اجرى الله على ألسنة الجمهور ما يصلح حجة على صلاح الحاكم او فساده، يقول علي بن ابي طالب: « ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ».

سياسة اللين والتسامح
ويطالب علي بن ابي طالب عامله بان يعفو ويصفح عن الرعية، وهو شطر من توجيهه يؤسس لسياسة التسامح فقد تعرض للرعية العلل ويفرط بها منهم الزلل ويخطئون عمدا او سهواً، فاصفح عنهم «فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ» فلا يزال يذكره بانه خلق مثلهم اذ الانسان «إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ» فلا يكن اذا على الرعية سبعا ضاريا وهذا لعمري اجمل ما يدبر به العلاقة بين الحاكم والرعية، وجدير بالحاكم كما في عهده لمالك، ان يكون احب الامور اليه اوسطها في الحق واعمها في العدل واجمعها لرضا الرعية فالاعتدال والعدل ورضا الشعب مطلب اساسي لقيام الحكم الرشيد، ويختلف نهج علي عن نهج معاوية وسائر الحكام، بخصوص الحاشية، ينصح علي عامله بان يتشدد في انتقاء حاشيته ومقربيه ففي الحكومات يكثر هذا النوع من الوشاة والمتزلفين للسلطان على حساب اعراض الناس، يقول علي: «وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا….. وَلَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ» ليس الوشاة وحدهم بل كل من كان بخيلا يعدل بك عن الفضل ولا الجبان يضعف موقفك في سائر الامور ولا الحريص الذي من شأنه ان يزين لك الشره بالجور، فهؤلاء ينطوون على غرائز كلها فاسد في السياسة كفسادها في الدين: «فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بالله»، لقد كانت الامارات في البلدان في عهد علي بن ابي طالب اشبه ما تكون بفدراليات ذات حكم ذاتي موسع، والعامل فيها مسؤول امام الحاكم في الدولة المركزية، لكن صلاحياته واسعة جداً، وعلي هنا يوجه عامله الى افضل سياسة لانتقاء حاشيته وبطانته ووزرائه، وهو يوجهه الى ان لا يضم في حكومته من كان وزيراً للحكومات الفاسدة التي سبقته، بل عليه ان يجدد الحكومة ويختار وجوها جديدة صالحة، ولن يعدم المجتمع اكفاء في الرأي والخبرة لكي يكونوا بديلا عن اولئك فان: «شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ..».

صلاح القضاء شرط العدالة
واذا كان عنوان دولة علي هو العدالة فكيف يستقيم ذلك من دون اصلاح القضاء، ولقد انصف علي بن ابي طالب من نفسه خصمه عند قاضيه مع ان الحكم كان ظالما في حق علي، ان القضاء هو محور السياسة العدلية، فهو يوجه عامله لأن يختار للقضاء «أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ» ولا يكفي هذا فلا بد من تعدهم واصلاحهم، فلقد اهتدى علي في زمانه الى ان الفساد يحيط بالقضاء وان من ثغرات القضاء ضعف التعهد لهم وتحسين معيشتهم للقضاء على الرشوة وان يكون القضاء ذا منزلة رفيعة عند الحاكم يقول علي بن ابي طالب: «ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ»، ثم ان عليا لم يترك الامر للموعظة بالنسبة للعمال، فلقد فعّل جهاز الرقابة على ادائهم في تدبير القطاعات، وجعل هذا النوع من التجسس اساساً لضبط ايقاع الاصلاح وعمارة البلاد يقول: «وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ»، ثم ان سياسة علي تعطي الأولوية للتوازن بين استجلاب الخراج وعمارة الأرض، ولا بد أن تكون الغاية هي عمارة الارض لا استجلاب الخراج. ان عهد علي لمالك الاشتر دستور متكامل، وبرنامج سياسي قل ان تجده في الديمقراطيات الحديثة، وهو يؤسس دولة العدل ليس على منحى عدالة الفقر، بل على منحى عدالة الغنى. ليس بعد هذا كله ان يتساءل المرء ان كان لعلي بن ابي طالب نظير يفري فريه العبقري، بل يبقى السؤال الاكبر: ماذا خسر المسلمون قبل العالم، بغفلتهم عن نهج علي، ان في الدين او في الدنيا؟

مقالات ذات صله