عود الضمير على أحد المتقدمين أو كليهما في في القرآن الكريم

ييي

أ.د. عائد كريم الحريزي

الضمير هو مصطلح نحوي يطلق على نوع من الأسماء نحو (أنا وأنت ، هو، وهي، وإياك، والكاف، والهاء، والياء في قلمك وقلمه، وقلمي) ، وكلها تنوب عن الأسماء الظاهرة ، منعاً للتصريح بها او تكرارها، وسمي الضمير بهذا الاسم : نظرا لقلة أحرفه في الغالب موازنة مع الاسماء، او لاستتاره في الافعال احيانا.
ولا بد لكل ضمير من اسم يعود عليه فالهاء مثلا في قولنا (زيد خطه واضح) يعود على (زيد) وبدل منه لئلا يتكرر لفظ (زيد) فيقال: زيد خط زيد واضح.

وفي القرآن الكريم قد يعود الضمير على الاسم المتقدم كما في عوده على (التجارة) في قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)-الجمعة/11-.
وقد يعود الضمير على الاسم المتأخر (الاثم) في قوله: (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)-النساء/112-
وقد يعود الضمير على المتقدمين كليهما في قوله تعالى: (إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا)-النساء/135-.
والعلة من ذلك ان اية التجارة كان السبب في نزولها ان الرسول صلى الله عليه واله كان يخطب لصلاة الجمعة فجاءت عيرٌ تحمل، فضربت لها الدفوف فرحا بما فيها، وابتهاجا بسلامة اصحابها، فترك المصلون المسجد الا نفرا قليلا منهم فنزلت هذه الاية، وفيها عاد الضمير على التجارة دون اللهو، لانها سبب الانفضاض، وهي القضية المحورية الاساسية.
واما اللهو فلم يصاحب التجارة، ولم يقترن بها وانما ذكر افتراضا لحكم شرعي، لينهى عنه وليحذر من الانفضاض اليه في مثل الظروف التي انفض المصلون فيها الى التجارة ولهذا فلا مسوغ لعودة الضمير اليه او لتثنيته مع الضمير العائد اليها، فضلا عن امكانية حمل (أو) على التفصيل والربط فقط.
ويخيل لي ان لفظة (اللهو) قد جاءت دون غيرها من المرادفات لانها عامة، تنسي الناس امور دينهم، ولأن ضرب الدفوف الذي صاحب مجيء القافلة فيه رائحة اللهو ونوع من انواعه، ولأن التجارة اذا شغلت المسلمين عن ذكر الله فهي لهو ايضا فهما في تلك الحال متلازمان تلازم السبب والمسبب، ويشكلان صورة واحدة، صورة اناس تركوا المسجد وسارعوا الى القافلة ودفوفها، فهما مختلفان لفظا متحدان سببا ونتيجة لهذا عاد الضمير على التجارة لان الكلام مبني عليها، ومن اجلها، ولأنها الهت الناس عن المسجد، وسبب في ضرب الدفوف.
وعاد الضمير على الاثم دون الخطيئة في الآية الثانية لان الخطيئة اساءة غير متعمدة، واكثر ما تقال فيما لا يكون مقصودا، وان عوقب عليها فعقوبتها ايسر من غيرها، واما الاثم فهو الفعل الذي يستحق صاحبه الذم واللوم والعقوبة، وهو عام في صغير الذنوب وكبيرها وقد يكون مقصودا متعمدا في ايذاء الاخرين، ولكونه كذلك، ولأن اثره يتعدى الى نفس صاحبه او الافراد والمجتمع نهي عنه بشدة وكرر ثلاث مرات في قوله تعالى: (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)-النساء/111-112-، واما الخطيئة فقد وردت مرة واحدة الى جنب الاثم، لكونها في الغالب غير مقصودة في ذاتها، ولكن المشرع ذكرها ليكون التحذير يشمل صغير الذنوب وكبيرها، وعليه فالاثم هو القضية المركزية في السياق وعاد الضمير عليه ووجود (أو) كما قلنا سابقا لا يوجب عطف ما بعدها على ما قبلها، لأنها قد تحمل على التفصيل او الشك فقط، فعندما نقول: جاء زيد او غسان فالحاضر احدهما لا كلاهما، يناسبه ضمير الافراد لا ضمير التثنية.
والخلاصة ان (أو) في الاية تجعل التجارة واللهو في زمنين مختلفين، وانهم رأوا (تجارة) ولم يروا لهوا، لذا عاد الضمير عليها، ولو رأوا (لهوا) لعاد الضمير عليه، ولو رأوهما في وقت واحد، أو في وقتين مختلفين لعاد الضمير عليهما، واللهو الذي رأوه كان فرحة بالتجارة لانهم بحاجة اليها جدا.
وعاد الضمير على المتقدمين كليهما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا)-النساء/135-.
ومعنى اية الشهادة هو (إن يكن) المشهود عليه (غنيا) يرجى في العادة ويُخشى، (او فقيرا) يُترحم عليه في الغالب ويُحنى (فالله اولى بهما) أي فلا تمتنعوا عن الشهادة على الغني طلبا لرضاه، أو على الفقير شفقة عليه، لأن الله تعالى أولى بالجنسين وأنظر لهما من سائر الناس، ولولا ان حق الشهادة لهما لما شرعها، فراعوا امر الله تعالى، فإنه اعلم بمصالح العباد(روح المعاني 3/161-163) وعليه فإن الغني والفقير هما المقصودان في الاية، ومدار الحديث عنهما، والكلام معقود بشأنهما، لذا عاد الضمير عليهما، سواء كان المراد بهما جنسا او افرادا، ومن خلال الشواهد القرآنية السابقة فالضمير يعود الى احد المتقدمين الاول او الثاني ان لم يكونا متكافئين في الاهمية، او كان المقصود احدهما دون الاخر، ويعود على كليهما ان كانا متكافئين، وهما الركنان الاساسيان في الكلام كآية (الشهادة).
ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ)-التوبة/36-
الضمير في (منها) يعود الى الشهور، وهي (اثنا عشر شهرا) وجموع التكسير قسمان: جمع قلة من (3-10)، وجمع كثرة من (11- الى ما لا نهاية له)، والعدد (12) يدخل ضمن جموع الكثرة والاشهر الحرم هي (4) تدخل ضمن جموع القلة وهي اربعة اوزان معروفة (افعل، افعال، افعلة، فعلة) يزاد عليها جموع السلامة بنوعيها.
ومن عادة العرب أن تفرد الصفة في الكثرة، فتقول: الجبال العالية، وتجمعها في القلة فتقول: الجبال العاليات، وتنسحب هذه العادة على الضمائر التي تعمد الى الصفة المفردة التي يراد بها الكثرة، والصفة المجموعة المراد بها القلة، ومثل ذلك في التمييز، تقول في القلة (ثلاثة رجال) بالجمع، وتقول في الكثرة (ثلاثة عشر رجلا) على الافراد، لذلك جاء الضمير في (منها) مفردا دالا على الكثرة، والضمير (هن) مجموعا دالا على القلة.
ومن ذلك الضمائر في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونََ)-التوبة/35-.
إذ جاءت الضمائر في (ينفقونها، عليها، بها) مفردة كلها، وهما مثنى: (ذهب وفضة) لثلاثة اسباب هي:
1. ان المال المكنوز (الذهب والفضة) كثير، وجمع الكثرة يعود اليه ضمير الافراد – كما قلنا سابقا- لتكونه من افراد متعددة فأفرد الضمير لكي يعود على كل فرد من تلك الافراد.
2. انها قاعدة شرعية عامة يراد العمل بها الى يوم القيامة وافراد الضمير مقصود به العموم زمانا، ومكانا، وذواتا، ولا يقتصر على الذهب والفضة فقط بل على كل مال مكنوز.
3. قد يكون افراد الضمير فيها رمزا الى ان النفقة في الفضة اكثر، لأنهم يعتزون بالذهب اكثر منها، قال الآلوسي: (وانما قيل «عليها» والمذكور شيئان، لأنه ليس المراد بهما مقدارا معينا منهما ولا الجنس الصادق بالقليل والكثير بل المراد الكثير من الدنانير والدراهم، لأنه الذي يكون كنزا فأتى بضمير (ها) للدلالة على الكثيرة، ولو اتى بضمير التثنية احتمل خلافه، وكذلك يقال في قوله سبحانه (ولا ينفقونها) وقيل: الضمير لكنوز الاموال المفهومة من الكلام فيكون الحكم عاما، ولذا عدل فيه عن الظاهر) روح المعاني 5/280.

نشرت في الولاية العدد 87

مقالات ذات صله