فاروق محسن ابو العبرة
من اعرق مدن الأرض الكوفة وظهرها (النجف)، تعود الى عصر البلايسوسين حتى العصر الحجري القديم اي قبل اكثر من مليون سنة. فقد ذكر ان ادم عليه السلام عندما اهبط الى الأرض اختط في هذه المنطقة مسجد الكوفة الاول، وبنى اول حضارة لبني الانسان للعبادة والتهجد، وهي الارض التي بدأ منها الماء يفور وغمرها الطوفان، وهو الجودي التي استقرت عنده سفينة نوح عليه السلام وفيها مثوى ادم ونوح وهود وصالح حتى تشرفت أخيراً بجسد أمير المؤمنين علي عليه السلام.
روى الكليني عن الامام أبا عبد الله عليه السلام قال: في هذا الموقع(ارض الكوفة) كان مسجد الكوفة الاول الذي اختطه ادم عليه السلام وانا اكره ان ادخله راكبا، وغيّره الطوفان ثم اصحاب كسرى والنعمان.. وكان مصلى الانبياء، وقد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه واله حين اسري به الى السماء.. فقال جبرائيل يا محمد هذا مسجد ابيك ادم ومصلى سفينته واشار الامام الى دار ابن حكيم في فرات اليوم وقال: ههنا نصبت اصنام قوم نوح (يغوث ويعوق ونسرا) والطوفان بدء من تنور في بيت عجوز مؤمنة في ميمنة المسجد، وبعد الطوفان رست السفينة على الجودي قرب الظهر.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الصدد قال: اول بقعة عبد الله عليها ظهر الكوفة ولما امر الملائكة ان يسجدوا لآدم سجدوا في ظهر الكوفة(بحار الانوار: 11/149).
وعندما اشرف الامام الصادق عليه السلام على أرض النجف قال: هي الجبل الذي اعتصم به ابن جدي نوح فقال: (سآوي الى جبل يعصمني من الماء)، ولم يكن على وجه الارض جبل اعظم منه فاوحى الله تبارك وتعالى الى الجبل ايعتصم بك مني فغاب في الارض وتقطع قطعا الى بلاد الشام فصار رملا وصار بعد ذلك بحر عظيما وكان يسمى بحر (ني) ثم جف فسمي (نيجف) ثم صار (نجف) اخف على السنتهم(علل الشرائع: 1/312). وهو الان منخفض كبير وهضبة تقع على الحافة الغربية باتجاه الصحراء.
وأرباب التواريخ يذكرون ان مجرى الفرات الموجود الآن حديث، ويفترض ان النهر غير مجراه الذي كان يمر خلال بحر النجف الى الغرب منها وجف هذا النهر وتحول لمجرى اخر وهو الفرات الحالي(مدينة النجف عبقرية المعاني وقدسية المكان: 12).
التسمية والمناخ والجغرافية
النجف في اللغة المكان الذي لا يعلوه الماء، وهي منطقة الظهر المرتفعة المتصلة بالحيرة والكوفة، واسم (النجف) احد اسماء هذه المنطقة لعلو ارضها، تشبه المسناة، تصد الماء عما جاورها ولكنه لا يعلوها اي ماء السيل لا يعلو مقابرها ومنازلها ومشرفة على ما حولها مما جعلها مدفنا على مر التاريخ لأقوام عديدة.. ومنطقة الظهر لها عدة اسماء منها (النجف، الغري او الغريان، المشهد، خد العذراء، الطور، الظهر، الجودي، الربوة، وادي السلام، بانقيا، اللسان، الجرف، الرحى، طور سيناء، الثوية، براثا).
يتميز مناخ ظهر الكوفة بصفاء الجو وطيب الهواء وطبيعة الارض الرملية النقية الجافة، فكانت منتجعا للساسانيين والمناذرة وملوك الحيرة وملوك فارس ومن قبلهم ملوك بابل ولقرب بابل من النجف أضحت مدفنا لجنائزهم بسبب ارتفاعها عن الماء ولجمالها وجمال نباتاتها(مدينة النجف عبقرية المعاني وقدسية المكان: 19)، وخاصة ايام الربيع فيها ألوان الورود والازهار وشقائق النعمان نسبة للملك النعمان بن المنذر الذي كان يمضي فيها اياما للتمتع بمناظرها الخلابة ولهذا سميت المنطقة (خد العذراء) لكثرة الاقحوان الاحمر والشيخ والقيصوم والشقائق(البلاذري في فتوح البلدان: 277).
وبهذا تعدُّ افضل ارض اتخذها الملوك والقادة والولاة لراحتهم واستجمامهم وصيدهم وبخاصة في المناسبات الدينية يذكر فقد بنى النصارى ورهبانهم والاساقفة فيها اديرة وصوامع كثيرة في صحراء ظهر الكوفة والحيرة قبل الاسلام يقيمون فيها التهجد والعبادة بمعزل عن الناس وان بعضاً من تلك الاديرة كانت على جانب عظيم من فخامة البنيان واتساع المساحة والمؤخون.
وذكروا وجود اكثر من ثلاثين ديرا في منطقة الظهر كـ(دير مارث مريم، دير هند الصغرى والكبرى، ودير ابن براق..) وبقيت تلك قائمة في ظهر الحيرة الى بعد الفتح الاسلامي عندما عسكر فيها خالد بن الوليد وبقيت مشاهدة حتى العصر العباسي(تاريخ الطبري: 4/12)
كما ارتبط النجف بالقصران (الخورنق والسدير) قبل الاسلام وهما رائعة من روائع الفن المعماري في ذلك العصر بناهما النعمان بن امرئ القيس ولم يبقى منهما الا الرمال ولجمال وقدسية النجف قال امير المؤمنين عليه السلام عندما نظر الى ظهر الكوفة (ما احسن منظرك واطيب قعرك اللهم اجعله قبري)( بحار الانوار: 41/9) وقال (ان مؤخر الكوفة روضة من رياض الجنة).
النشأة
تشير الدراسات التاريخية ان النجف لها قيمة اثرية، لاسيما اذا علمنا ان الموضع لا يمتلك ايا من مقومات الجذب السكاني، سوى اتصالها بحضارتين كبيرتين (الحيرة) عاصمة المناذرة قبل الاسلام والكوفة عاصمة الخلافة العربية الاسلامية، فاطلق على المنطقة (نجف الحيرة)، و(نجف الكوفة).
اذن ارض النجف لم تكن مأهولة بالسكان الى وقت ظهور قبر الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه الصلاة والسلام في اواخر القرن الثالث الهجري، ومما وسع في ارثها الفكري والحضاري لتكون قطب الرحى للعالمين العربي والاسلامي ومركزا روحيا وثقافيا ودينيا وعلميا ظهور الثرى الطاهر وكراماته في تلك البقعة.. فامتلكت النجف من يومها عمقها الديني، والعامل الديني يعد عاملا مهما في نشاة الكثير من المدن، والمدن التي تنشأ لهذا الاعتبار الديني لا تخضع لأي عامل اخر كالجغرافي والاجتماعي او العرقي وغيره، والتطور الذي حصل للنجف استمد قوته من الايمان والمعتقدات التي يتأثر بها من طبيعة الدين الاسلامي الذي اهتم بالممارسات المدنية أيضاً اهتماما متعادلا ومتكاملا مع الطقوس الدينية المشجعة للحياة الحضارية، رغم الظروف المناخية لطبيعة ارض النجف غير الصالحة لأن تكون موضعا لمدينة، لافتقارها كما نوهنا الى مصادر الحياة، اذ هي على اطراف الصحراء وتبعد عن اقرب مصدر لنهر الفرات بمسافة 8 كم وترتفع عنه بـ(36)م فضلا عن قلة الامطار بما يتيح قيام زراعة فيها(ماضي النجف وحاضرها: 209 جعفر باقر محبوبه)، وهو ما كانت تعاني منه المدينة باستمرار والى وقت قريب.
اضف ان نشوء مستوطنات ومدن سبقت نشوء النجف مثل بابل والحيرة والكوفة يؤكد عدم صلاحية الموضع للاستيطان البشري لولا العامل الديني.
فالنجف لم تكن مأهولة حين نشأت تلك الحضارات المجاورة حتى العقود الاخيرة من القرن الثالث الهجري ما كان يعتد به من سكن فيها.
وبعد ان مصرت الكوفة استمرت مركزا مهما وقت قدوم الامام امير المؤمنين علي عليه السلام اليها سنة 36هـ -656م، فاصبحت مقرا وعاصمة للخلافة الاسلامية والى وقت استشهاده فيها ليلة 21 رمضان 40هـ(مقاتل الطالبيين: 54)
أما قبل ظهور القبر الشريف ما كان يزار إلا سرا من قبل بعض العلويين والخواص من الشيعة حتى عام 171هـ، ومن خلال كرامة صدرت من القبر الشريف اكتشف الخليفة هارون القبر سنة 170هـ وهو ول من بنى عليه قبة.
من هنا نشأة مدينة النجف الاشرف مرتبطة بضريح الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، وبعد تمصيرها في القرن الثالث الهجري طغت مكانتها على مدينتي الحيرة والكوفة وهاتان المدينتان اخذتا بالضمور بعد الفتح الاسلامي، واخذت النجف بالتطور في نواحيها العمرانية والاجتماعية والاقتصادي، وأخذ اهل العلم التأكيد على فكر مدرسة اهل البيت وعلى الاهداف الروحية حتى اضحت النجف انموذجا للمدينة الدينية يتوافد اليهما الزوار وتتوافد اليها الجنائز للدفن في وادي السلام تيمنا وتبركا لمجاورة قبر الامام الشريف(العوامل التاريخية لنشأة وتطور المدن العربية والاسلامية: 182).
نشرت في الولاية العدد 96