نهج البلاغة وعلم الأخلاق

طالب شبر

إن جلّ الناس قد سمعوا عن كتاب نهج البلاغة، والعديد منهم قد بلغتهم غاية الوصف في عظمته، إلا أن كثيرا منهم لم يطلع على فحوى هذا الكتاب أصلا، ومنهم من قرأ نزرا يسيرا منه ثم أهمله، ومنهم من يتحرى من قراءته الأحداث التاريخية، ومنهم من يبحث فيه عن القضايا الفلسفية، ومنهم من يتابع فيه البدائع اللغوية.. إلا أن الملفت للنظر إهمال الكثير من القراء الجانب الأخلاقي في هذا الكتاب إلى حد كبير، فقلما تجد من الناس من يتابع في كتاب نهج البلاغة هذا الموضوع المهم والحساس.

إن الجانب التربوي والأخلاقي يشكل ــ دون مبالغة ــ ركنا أساسيا في كتاب نهج البلاغة، حيث يعد أول كتاب في التربية والأخلاق بعد القران الكريم، حتى أن الكثير من الخطب والكلمات التي ذكرت فيها الجوانب الفلسفية والتاريخية وما شابه قد اتخذت من مسألة تربية النفس وتزكيتها هدفا لها بشكل عام، وجميع الكتب التي ألّفها علماؤنا الأعلام(رضوان الله تعالى عليهم) التي تبحث في قضايا الأخلاق الإسلامية لا تصل في مقاصدها وفي طريقة بيانها إلى ما وصل إليه نهج البلاغة، لان نهج البلاغة هو كلام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكفى بذلك دليلا قاطعا على ما ندعيه.
وقد تطرح هنا إثارة تقول: إن المسلم الذي يريد أن يخوض في القضايا التربوية لتهذيب أخلاقه على ضوء تعاليم الشريعة السمحة، يحتاج إلى تبويب في البحوث وتسلسل في المقاصد، حتى يسير بخطوات مدروسة نحو تزكية نفسه خطوة اثر أخرى بشكل منهجي، وهذا ما تطرحه مؤلفات علماء الأخلاق بشكل واضح، بينما يفتقر نهج البلاغة إلى ذلك، حيث تجد أن فيه خطبا وحِكما في الأخلاق مبثوثة هنا وهناك دون تبويب وتنظيم، الأمر الذي قد يربك السائر على هذا الطريق، فتكون قراءة تلك المؤلفات في هذا المجال أولى .
وهذا الإشكال يرتفع فيما إذا نظرنا إلى طبيعة كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) ، فان كل خطبة ألقاها وكل حكمة قالها وكل وصية كتبها تمثل في حد ذاتها منهجا شافيا وعلاجا ناجعا يزكي النفس وينقي الروح ويطهر القلب، لما لكلامه من سحر غريب في تناسق المقاصد وترابط المعاني وفصاحة الألفاظ، فان قائلها باب مدينة علم الرسول(صلى الله عليه واله) وهو اعلم بما يؤثر في النفس ويصلحها.
ثم إن هذا الإشكال لو كان صحيحا لجرى تفضيل قراءة تلك المؤلفات على قراءة القرآن الكريم، لان القرآن لا يطرح القضايا التربوية على أبواب وفصول مرتبة، وإنما تجدها مبثوثة بين آيات القرآن الكريم هنا وهناك.
على أننا لا ندعو إلى إهمال قراءة المؤلفات الجليلة التي ألفها العلماء في هذا الباب، ولكننا نقصد أن يوليها الإنسان الدرجة الثانية من الاهتمام بعد كتاب الله ونهج البلاغة، فتكون قراءة تلك المؤلفات من باب التفسير لما أشكل من فهم بعض مقاصد القران الكريم والنهج، أو للاستزادة من بحر علم الأخلاق الفضيل.
ولكي يستفيد القارئ من نهج البلاغة أقصى استفادة، لابد له من أن يقرأ الكلام فيه بتدبر وتفكر، ويكرر القراءة ويعيدها مع التفهم والاعتبار، حتى تنطبع تلك الحقائق في صحيفة صدره، وتكون قبلته التي تتوجه إليها روحه، وعينه التي يحرس بها جوارحه، وجليسه عند وحدته، ومؤدبه عند جهالته.
على أن تمييز الكلام الذي يتحدث عن الجانب التربوي من غيره في النهج أمر يسير، اذ إن قوامه في العادة الحث على التقوى والتذكير بالموت وذكر الآخرة والتزهيد بالدنيا وتبيان حقائق الأمور التي تتعلق بالسلوك، كذكر صفات المتقين وصفات الدنيا والعلاقة بينها وبين الآخرة، وذكر أسباب الرزق وحالات القلب، وذكر الكثير من الصفات الحميدة الواجب مراعاتها، والكثير من الصفات الذميمة التي يجب على المرء اجتنابها.
وخلاصة القول، انّ الاهتمام بالجانب الأخلاقي الذي يطرحه نهج البلاغة من أهم الأمور التي يجب أن تلاحظ إذا أردنا الاستفادة من هذا الأثر القيم حق الفائدة.، ومن هذا المنطلق، ارتأينا أن نستعرض جزء من الجانب التربوي والأخلاقي في كتاب نهج البلاغة، ونستوحي ما يمكن استيحاؤه بما يناسب هذه العجالة:

الهوى وطول الأمل
إن من المحاور الأساسية التي ركز أمير المؤمنين(عليه السلام) على معالجتها في موضوع تربية النفس والسير إلى الله تعالى خصلتين مهمتين هما: إتباع الهوى وطول الأمل، وهذا ما ذكره صريحا في أكثر من موضع في نهج البلاغة حيث قال: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ)( نهج البلاغة 1: 93)، وقال: (مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ)( المصدر نفسه 4: 10.)، وقال(عليه السلام) : (وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ وَيُنْسِي الذِّكْرَ فَأَكْذِبُوا الْأَمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ)( المصدر نفسه 1: 151.).

الترغيب بالآثار العاجلة
ومن الأساليب التربوية الواضحة التي وردت في كتاب نهج البلاغة: اسلوب الترغيب اعتمادا على بيان آثار الصلاح العاجلة بالإضافة إلى الآثار الآجلة، حيث ان للصلاح آثاراً ايجابية تظهر في الحياة الدنيا قبل الآخرة، لذا فقد ورد في نهج البلاغة في مواضع عدة منه ما يؤكد هذه الحقيقة، باعتبار أن هذا المجال يمكن أن يعد من المجالات التي تشكل دافعا قويا للإنسان من أجل أن يصلح حاله، باعتبار أن الكثير من الناس يحرصون على إصلاح حالهم في هذه النشأة، ويحبون استقامة أمورهم في الدنيا.
روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: (وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَلَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَلَا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ..)( نهج البلاغة 3: 27)

نشرت في الولاية العدد 99

مقالات ذات صله