كان الإمام الصادق ( عليه السلام )، امام عصره، ومرجع الفقهاء والعلماء والمحدثين، وعليه تتلمذ وعنه أخذ المئات من مشايخ العلم والحديث، وقد شهد له العلماء والفقهاء ودونوا شهاداتهم لجليل قدره وعظيم شأنه وغزارة علمه.
ولادة الكوكب السادس
وسط اجواء من الأفراح التي كانت تعم المسلمين بذكرى ولادة الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) كان بيت الرسالة على موعد مع بشرى اخرى ستعم من خلالها موجة من السرور والابتهاج بولادة الكوكب المنير السادس لأئمة الهدى (عليهم السلام) و هو الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) الشعلة المضيئة من قبل السماء لأهل الأرض لتنير لهم سبل الرشاد وطرق الهدايا،
عن تاريخ ميلاد الامام الصادق (عليه السلام) فقد اختلف المؤرخّون في سنة الولادة وشهرها ويومها اختلافاً شديداً… فالمشهور بين الشيعة ان ولادته(عليه السلام) كانت في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الاول، وهو اليوم الذي وُلد فيه جدُّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)…
فكما أن الله تعالى اختار يوم السابع عشر من شهر ربيع الاول لولادة نبيه العظيم (صلّى الله عليه وآله) كذلك اختار الله ذلك اليوم لولادة الامام الصادق(عليه السلام) الذي كان اكثر الائمة نشراً لدين جده و اكبر مُدافع عن شريعته الخالدة في ذلك العصر وكل العصور. أما سنة ولادته عليه السلام فالمشهور بين المؤرّخين الشيعة -وأكثر العامَّة- أنها كانت سنة ثمانين للهجرة وقيل: سنة ثلاث وثمانين.(الامام الصادق من المهد الى اللحد)
لقد نشأ الإمام الصادق (عليه السلام) في كنف جده الإمام زين العابدين(عليه السلام) الذي ملأ عصره مجدا وفضلا فكان يوحي اليه كل معاني السمو العظيمة ويغذيه مكارم الأخلاق والكمال ولم يزل يرى من جده العبادة والزهادة والرفادة والاجتهاد في طاعة الله فتنطبع في نفسه اثارها وعند تقليد الإمام الباقر(عليه السلام) وقام بأداء واجباتها ومسؤولياتها خير قيام كان الإمام الصادق يترعرع ليصبح فتى نموذجيا يتطلع اليه الشيعة بأبصارهم ويرون فيه القدرة بعد ابيه الإمام الباقر(عليه السلام).
مدرسة الإمام مشروع العلماء:
من النقاط المهمة التي ميزت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) عن غيرها من المدارس الإسلامية، وأضفت عليها هالة من العظمة والرصانة والإتقان هي قوة شخصية المؤسس لهذه المدرسة، الذي كان أفضل أهل زمانه نسباً وعلماً وفضلاً وخُلقاً وعبادة وحكمة وزهداً في الدنيا، مما حدا بالقريب والبعيد، العدو والصديق، ان يطري على هذه الشخصية ويذكرها بكل جميل.
كان الإمام (عليه السلام) ساهم مع ابيه الإمام الباقر(عليه السلام) في تأسيس مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في المدينة المنورة، وقد اتخذ من الحرم النبوي مركزاً لتلقين الموالين الدروس العامة حتى تحولت هذه البذرة الى اكبر معهد من المعاهد الإسلامية في زمانه ,فربى جيلاً من العلماء انتشر في انحاء البلاد ليبث حقائق الدين ويبين معالم الفكر المحمدي الرصين، وقد أجمع الكثير من العلماء انه نُقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) من العلوم مالم ينقل عن احد حتى ان اصحاب الحديث جمعوا اسماء الرواة الذين رووا عن الإمام الصادق (عليه السلام) على اختلاف آرائهم فكانوا أربعة الاف راوٍ وهكذا كانت جهوده المباركة في أرساء قواعد الدين وتثبيت اصوله وفروعه، وعقائده، وبعد مضي مئات السنين على بزوغ هذه المدرسة المباركة لاتزال معظم العلوم الإسلامية من فقه وحديثاً وتفسيراً وفلسفة وحديث وتفسير وأخلاقٍ.. وغيرها التي تستمد التطور والتجديد من آراء مؤسسها وتنهل من حكمه وتوجيهاته القيمة ليست من العلوم الإسلامية فحسب بل ان كثير من العلوم الحديثة كان له (عليه السلام)الرائي السديد في تأسيسها وأنمائها.
ومن مميزات هذه المدرسة أنها تتصف بالشمولية، فهي لا تقتصر على دراسة الفقه والحديث كما هو المتعارف في سائر المدارس الدينية بل كان فيها الفقه والحديث والتفسير وعلوم القرآن وعلم الكلام، بل تجاوزت ذلك لتشمل العلوم الإنسانية أمثال علم الكيمياء والطب والفلك وعلم الهيئة والطبيعة وغيرها، و لم تكن مدرسة سطحية بل مدرسة تعتمد الدليل والنقد العلمي، وتحليل الآراء وإرجاع الأقوال إلى أصولها ليتبين صحتها من سقمها ولذلك كان الإمام الصادق عليه السلام وتلامذته لا يفحمون بمقال ولا يغلبون في مناظرة من هنا كان نجاح التلامذة و بزوغهم لأنهم كانوا يأخذون المعلومة والحكمة من مرجعهم مباشرةً دون نقل او راو، ولا بأس هنا من ذكر حادثة جرت بين الإمام الصادق عليه السلام وبين أبي حنيفة إمام المذهب الحنفي، يقول أبو حنيفة: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة: ان الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيّء له من مسائلك الصعاب. فقال: فهيّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليَّ المنصور فأتيته.
فدخلت عليه، وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور،، ثم التفت إلى جعفر، فقال: يا أبا عبد الله: تعرف هذا؟
قال: نعم، هذا أبو حنيفة، ثم أتبعها: قد أتانا.
ثم قال: يا أبا حنيفة هات من مسائلك، فأسأل أبا عبد الله!
فابتدأت أسأله، فكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا، وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا معا، حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم فيها مسألة: ثم يقول أبو حنيفة: أليس قد روينا ان أعلم الناس أعلم باختلاف الناس.
مواقف جريئة:
من المواقف التي شهد لها التاريخ ولابد من الإشارة اليها تبياناً لمواقف عظيمة وأدوارا مشرفة منها في مواجهة المنصور العباسي عندما تسلط عليه الذباب بشكل متكرر فتضايق المنصور وسأل الصادق: لأي شيء خلق الله الذباب؟ فكانت وبشكل غير مباشر حكمة حق في وجه سلطان جائر (ليذل به الجبارين).
– وموقف من والي المنصور على المدينة شيبة بن غفال الذي مدح الخليفة وأهل بيته وشتم علياً واهل بيته عليهم السلام من على منبر مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فكان مما قاله الامام الصادق (عليه السلام): أما ما قلت من خير فنحن اهله, وأما ما قلت من سوء فأنت وصاحبك المنصور به اولى, فأختبر يامن ركب غير راحلته وأكل غير زاده ارجع مأزوراً… )
– كلامه للمنصور في مجلسه بعد أن قصد إحراجه بكلمات فكان الرد الحاسم من الإمام الصادق عليه السلام (أنا فرع من فُروع الزيتونة ,وقنديل من قناديل بيت النبوة,وأديب السفرة ,وربيب الكرام البررة ,ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور من النور وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر..).
قالوا عنه:
لقد اجمع واصفوه بأنه لقب بالصادق لأنه عرف بصدق الحديث والقول والعمل حتى اصبح حديث الناس في عصره ,وقد عرف ايضاً بنبل المقصد وسمو الغاية والتجريد في طلب الحقيقة من كل هوى أو غرض من أغراض الدنيا, لقد كان يطلب الحق للحق لا يبتغي عنه بديلا ولا تلتبس عليه الامور, و أذا ورد عليه أمر فيه شبهة نفذت بصيرته الى حقيقته وأزال عنه غواشي الشبهات , فكل هذه الخصال الحسنة فيه جعلته محطة للمديح من قبل الموالي والمعادي وحتى الذين خالفوه
قال زيد بن علي (عليه السلام): في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر، لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه
وقال عنه المنصور الدوانيقي ان جعفر كان ممن قال الله فيه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) وكان عن اصطفاه الله وكان من السابقين في الخيرات.
وقال عنه مالك بن أنس: جعفر بن محمد اختلف اليه زمانا فما كنت اراه الا على احدى ثلاث خصال، اما مصل، واما صائم ، واما يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت اذن ولا خطر على قلب بشر افضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعاً.
يقول الآلوسي: هذا ابو حنيفة وهو من اهل السنة يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السنتان لهلك النعمان، يعني السنتين اللتين جلس فيهما لأخذ العلم عن الإمام جعفر الصادق.
أحمد أمين: واكبر شخصيات ذلك العصر في التشريع الشيعي بل ربما كان اكبر الشخصيات في ذلك من العصور المختلفة الإمام جعفر الصادق وعلى الجملة فقد كان الإمام جعفر من اعظم الشخصيات في عصره وقد استشهد في العام العشر في حكم المنصور.
نشرت في الولاية العدد 100