مذكرات رجل ميت

هذه المحطة عبارة عن مقال وليس قصة سأكتب فيه مذكرات رجل ميت تضمن احاسيس وخلجات كانت لتمثل حالة فيها بعض المعلومات والعبر التي تنفع القارئ الكريم وستكون على شكل حلقات والله من وراء القصد.

عاد الرجل الذي تقترب خطوات عمره من السبعين عاما الا انه مملوء بالنشاط والحيوية ولكنه عاد هذه المرة من عمله متعبا ومثقلا بأفكار لا يعلم منشأها حتى يكاد لا يستطيع سحب اقدامه امام البيت بعد ان نزل من السيارة التي اقلته حيث سكناه، فتح باب الدار بمفتاحه القديم الذي لازمه طوال الاعوام الثلاثين التي سكن بها هذه الدار ثم اغلق بعده الباب واخذ يقلب ذلك المفتاح العتيق وخاطبه وهو يتأمل (شكرا لك.. دوما فتحت الباب امامي) ثم دسه في جيبه، وبعد لحظات استقبلته العائلة كالمعتاد حيث الاحفاد الذين عبأوا الدار حركة وهم يلعبون وامهاتهم اللاتي يقمنَّ بالواجبات البيتية على اكمل وجه.. قبلوا يده والتفوا حوله واول ما سألهم عن فريضتي الظهر والعصر هل ادوها وكان جوابه لهم بالإيجاب جميعا وبفرح تغامر ثم توجه الى غرفة المعيشة حيث كانت زوجته تجلس على فراش اعد لها في المكان بمهابة وعز حيث كان الزوجة وهي الجدة والمرأة الكبيرة في البيت قد اقعدها المرض اصابها من تعب السنين وآلامها فصارت مقعدة، دخل عليها زوجها مع احفاده وكأنه في موكب جلس عندها وقبلها في رأسها ملاطفا ومخففا لآلامها وتبادلا بعض الاحاديث ثم قالت له الى متى اظل هكذا أؤدي صلاتي عن جلوس احس بالتقصير بالرغم من اني انجزها على اتم وجه، اجابها والابتسامة المشربة بالألم غطت وجهه وقال لها لا عليك ان شاء الله مقبولة حيث لا يكلف الله نفسا الا وسعها وما تستطيع فكم كنت تصلين من قيام وبأتم وجه وبأوقاتها عندما كنت قادرة عليها، والله ارحم الراحمين، فأجابته نعم وانا اليوم كذلك وأؤديها بأكمل وجه وبوقتها مع فارق القيام لكن انت بحمد الله تؤدي الصلاة جماعة في المسجد وبأوقاتها ومواظب على ذلك طوال حياتك الا ما ندر ثم حمدا رب العزة على موفور النعم ثم استأذنها ودخل غرفته وغير ملابسه ليرتدي الدشداشة البيضاء الناصعة وفجأة احس بدوار شديد تمسك بعود سريره وبجهد كبير تمدد على فراشه احس بثقل لسانه الذي لم ينقطع مع الاستغفار والشكر..
خرت قواه احسس ببرودة اطرافه ثم اخذ بصره الثاقب يتلاشى تمسك بمأزره جيدا محاولا التشبث بشيء ما او بأي شيء، وما ساعة الا ودخل الاولاد الاربعة المنزل وكلٌ عاد من جهته وبعد ان اكمل الجميع استعدادهم للتجمع حول سفرة الغداء التي تقرش عادة في غرفة المعيشة الى جوار فراش الام المريضة وبالفعل مدت السفرة وكانت تحوي غذاء بسيطا في مكوناته الا انه غني بالرضا والشكر لما انعم الله فهو رزق حلال حيث حوت من الزاد خبزا ورزا ومرق ولبنا وتمرا وفاكهة اخرى قطعت بانتظام لتكفي الجميع، انتظر الجميع خروج الاب حيث ليس كعادته ان يتأخر هكذا وظنوا انه تفاعل مع قراءة القرآن حيث ان ينتهز اي فرصة فيقرأ القران متدبرا ومتأملا، لم يتمالكوا انفسهم وسط دعوات الام المريضة التي كانت قلقة جدا حيال ذلك فهبوا جميعا للغرفة وما ان دخلوا حتى شاهدوا الاب الحنون والوالد الرؤوف ممددا على فراشه دون حراك.
تصرفوا بعقلانية كبيرة دون زعيق وصياح ورباطة جأش قوية رغم الدموع التي تنهمر انهارا والحزن خيم وساد خصوصا بعد حضور الزوجة الوفية زاحفة للوصول الى زوجها في وداع اخير على امل اللقاء القريب عند مليك مقتدر، أما هو فقد شاهد هذا المنظر الرهيب واخذ يوصيهم بما وصى به امير المؤمنين عليه السلام ولديه واهل بيته عندما حضرته المنية، ظنا منه انهم يسمعونه مع يقينه القاطع بأنهم كذلك لأنهم تربوا على الفضيلة والنبل والامانة والشرف، ولم يدخل في طعامهم وشرابهم حرام قط، ثم اخذ يستمع لولده الكبير وهو يوصي كل العائلة بان يلتزموا الصبر والسكينة ويدعوا لوالده المسجى ويقرأوا له دعاء العديلة وسورة يس والرحمن ريثما يتدبر الامر وفعلا كل قام بواجبه ثم حضرت الاسعاف ونقلت ذلك الجسد الى المستشفى لإجراء اللازم والاب يراقب الجميع ويتصفح الوجوه وهو يودعهم بصوت غير مسموع حيث يقول استودعكم الله الذي لا يضيع ودائعه وهذا فراق بيني وبينكم حتى اللقاء عند وحي لا يموت حافظوا على صلاتكم وواجباتهم الشرعية، الله الله في القرآن، الله الله في الحقوق فلا تضيعوا حقا ولاتسلبوا احداً حقه والله والله في الوطن والعرض والدين وقطع كلامه صوت الاسعاف وما ان وصلت الاسعاف المستشفى انزل الجسد على سرير بعد ان لف بإزاره وكشف عليه الطبيب ثم قال البقية في حياتكم إليَّ بالهوية الشخصية حتى انظم له شهادة وفاة، سمع الرجل الميت الكلام بكامله ثم قال (دون ان يسمعه احد) ورقة الميلاد ورقة الوفاة وورقة التخرج كلها اوراق لكن الاهم الورقة التي خطت فيها اعمالي والتي تحفظ بجواري هي التي اسأل عنها، احضروا التابوت من اقرب جامع (قالها الولد الاكبر)وفعلا جيء بالتابوت ووضع الجسد فيه بعد ان لف بمأزره ثم نقل الى مغتسل بير عليوي وذلك لتجهيزه منه غسل وتكفين، ما ان وصلوا الى المغتسل حتى سمع الرجل الميت الحركة وعلم انه قريب من مرقد امير المؤمنين عليه السلام فسلم قائلا السلام عليك يا امين الله في ارضه حتى اكمل زيارة امين الله التي يحفظها عن ظهر قلب، وضع الجسد على دكة المغتسل ثم اخذوا اولاده يجردونه من ملابسه وما ان اكتمل عملهم حتى وضعوا منشفة على عورته لسرتها اذن للمغسل بالمباشرة بعمله وهم يساعدونه فمنهم من يمسك بيده وآخر بقدمه وآخر برأسه والآخر يساعد بسكب الماء والجسد يتقلب كما يشاؤون الى ان اكتمل الغسل والتكفين والتحنيط، عندها قال الرجل الميت كم زرت هذا المكان عندما مات ابي واخي واصدقائي وكم كنت اتصور ان اكون انا هنا وها انا فعلا هنا عندها تبسم الرجل وهو يسمع المغسِّل يقول ما انظف اباكم وما اطيب ريحه ثم حمل النعش على الاكتاف بموكب رهيب عندها رفع اذان المغرب من مأذنة العتبة العلوية المقدسة فصاح الرجل الميت، (الصلاة.. الصلاة.. الصلاة).

نشرت في الولاية العدد 100

مقالات ذات صله