الشعر و الإنسان

أ.م.د. علي مجيد البديري

كيف يمكن لعلاقة قائمة بين طرفين منذ بدء وجوديهما أنْ تكون؟ ليس هناك في عالم الإبداع الإنساني علاقة تساكنية أكبر من العلاقة ما بين الشعر والإنسان ، كلٌّ يسكن الآخر، حتى حين يكون الشعر مقاوماً لمظاهر انصراف الإنسان عن فطرته، ساعة يتعدى على حرية أخيه وحقوقه وكرامته. ومن هنا لا نتعجب من أن تكتسب هذه العلاقة حضوراً لافتاً لدى الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم. فلم يكن هذا الشاعر مبالغاً في جوابه عن سؤال محاوره فيما يخص هيمنة البعد الإنساني على أبعاد الخطاب الأخرى في قصائده المقاومة، حين قال أنا مؤسس نظرية أنسنة العدو في الشعر مشيراً إلى نص قديم كتبه في بداية تجربته الشعرية عن جندي عربي يقول عن عدوّه: ((بادلتُه تبغًا بماء)).
ان حركة الإنسان في شعر سميح القاسم دائمة، حتى حين تخفق الأشياء في محيطه في أن تكون فاعلة أو نابضة بالحياة، فعبر الإنسان تمر الأمكنة وتتشكل ملامحها، وهو من يمنح الزمن هويته ويرسم حدوده، وتصير إرادته قطباً محركاً للحياة. وفي بعض صور الاستلاب التي يعيشها الإنسان قسراً وظلماً تتعدى وظيفة الانسان في قصائده حدود تجسيد الألم ووحشية المحو التي يقاسيها وإبرازه لهذه المعاناة إلى فعل التغيير، فهو الإنسان وما عداه أدنى منه وجوداً وفاعلية وحضوراً. وإن مساحة حضوره متسعة، تبدأ من العلاقة مع الذات، وتتوزع بين الآخرين والأشياء بلا حد أو نهاية. فالآخر متعدد، ممتد يمتلك تاريخا ومدى يحدد هويته، وكذلك الشيء. وإنسان قصائد القاسم يحاور مفردات هذا المحيط ويتفاعل معها. فحرصت قصائد سميح القاسم على الارتقاء بصوت الإنسان وإعلائه قوةً مؤثرةً, وفي الوقت الذي يقتحم الرعب القادم بصورة قوةٍ سلطوية وجودَ الإنسان محاولة مسخه وتعطيله وتجريده من إنسانيته، يلجأ الإنسان إلى مقاومته بالأمل والحلم الجميل كأضعف أداة يمكن أن يستعملها الأعزل المحاصر، فيرسم الحياة البديلة لواقع يحتضر، وطالما نجحت مهمته في ذلك، ولم يقف عاجزاً أمام هوة التضاد ما بين صور الموت، صور الحياة، صورة الوطن المستلب تحاول أن تؤكد حضورها على الرغم من فعل التشويه والتنكير الذي يمارسه العدو.. يكون الوطن لساناً ناطقاً قبالة الإسكات، على وفق دلالة يكون فيها فم الوطن ثباتاً واستمراراً عبر اللغة، الهوية:
((فإن طريقنا الممتد / الى أروع ما في الغد / يجوبُ مفاوز الميراث من مولدنا الماضي / ويصعد.. عبر انقاضِ / يقبّل كل نصب المجد بين مقابر الاجداد / ويتركها.. بلا ميعاد!))
كلمة الإنسان تنفتح على وجوه المقاومة، المقاومة بما هي تأكيد لإنسانيته، فهي لا تعترف بالطارئ من الصفات والأحوال كالقومية والعرق والطائفة :
((في كفي دفء من كفك / في قلبي صوتك (إني في صفك)/ وهتافك (إني معكم يا إخوتي الشرفاء) / قسماً بالشمس / معاً سنفك من الأسر الدامي الشمسا)) .

نشرت في الولاية العدد 102

مقالات ذات صله