مرتضى علي الحلي
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ قَد قَدَّمَ فِي نَظْمِه البَيَانِي، أُسُسَاً أخلاقيَّةً وعِلْميّةً مَكينَةً، تَنظيرَاً وتَطبيقَاً، يَتَقوّمُ بِهَا حَرَاكُ الإنسَانِ المُؤمِنِ مِن حَيث المَبدَأ والمُنتَهَى، فِي اعتِقَادِه، وفِكْرْه ونِيتِه وسُلُوكِه، ومَعرِفَتِه وعِلْمِه واجتِمَاعِه وتَعايشِه, وجَعَلَهَا مُدْخَلاتٍ بِنَائيّةً عُليَا، تَتوفّرُ على مَقولَةِ الصِدْقِ واقِعَاً, ومُطَابَقَةً وغَرَضَا، ومَصلَحَةً تُقَارِنَه مُدْخَلاً ومُخْرَجَا، تَتَمَثّلُ هَذه المَصلَحَةُ السُلُوكيّةُ والقِيَميّةُ بتكفِّلِ صَلاحِ الإنسَانِ واستقَامَتِه وفَوزِه ونَجَاتِه، وكَأنَّ القُرآنَ الكريمَ يُريدُ أنْ يُعرّفَ الإنسَانَ في مَفهومِه الأخلاقِي بِالكَائِنِ الصَادِقِ، مُدْخلاً ومُخرَجَا، حَتَى أنّه أخَذَ الصِدْقَ في تَحديدِ المُدْخَلِ والمُخْرَجِ أخذاً ذاتيّاً مُقَوِّمَاً، لِمَزيدِ عِنَايَةٍ واهتمَامٍ وتَقريرٍ لِحُكْمِ الصِدْقِ وثبوتِه في وجودِ الإنسَانِ وحَيَاتِه.
قاَلَ اللهُ تَعَالَى : ((وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا))(80)الإسراء.
وثَمّةَ أمرٍ بَليغٍ هُنَا تُقَدّمُه هَذه الآيةُ الشَريفَةُ للإنسَانِ, وهو أنَّ حَرَاكَ الإدخالِ والإخراجِ للإنسَانِ في كُلِّ شيءٍ هو شَأنٌ اختَصّ به اللهُ تَعَالَى , حَصْرَاً, وأنْ ليسَ لِغَيره نَصْبُ نَفِسه وَليّاً في ذلك, لِمَا له سبحانه, مِن المَولويّة الحقيقيِّة و الإحَاطَةِ عِلمَا ووجودَاً في عالَمَي التكوينِ والتشريعِ, فَجَاءَ مَنطوقُ الآيةِ الشريفةِ مُخَاطِباً النبيَّ الكريمَ صَلّى اللهُ عليه وآله وسَلّم, بِلِسَانِ الدُعَاءِ ,إشعاراً بهذهِ الحَقيقةِ , وتَبليغاً لَهَا , وعَليه يَنبَغي أنْ يكونَ دخولُ الإنسَانِ وخروجه بِصِدْقٍ وعِلْمٍ في مُطلَقِ ما يَظهَرُ لَه مِن عَقيدَةٍ وفِكرٍ وثَقافَةٍ وسُلُوكٍ, وحتى ما يُسَاوره في نيتِه , وأنْ يُجَانِبَ الكِذبَ في مَدَاخِله ومَخَارِجِه, مُطلقَاً, إذ أنَّ الدخولَ والخروجَ همَا مِحْوَرِ وَظيفَةِ وتَكليفِ الإنسَانِ, وباختيارِه, وقُدرَتِه.
وقَد أجَادَ السَيّد الطباطبائي في تفسيره المِيزَانِ , شَرحَاً وبَيَانَاً لِدِلاَلاَتِ ومَقَاصِدَ هَذه الآيَةِ الشَريفَةِ, فَقَالَ: (المُدْخَلُ بِضَمِ المِيمِ وفَتْحِ الخَاءِ مَصدرٌ مِيميٌّ بمعنى الإدخَال, ونظيره المُخْرَج بمعنى الإخرَاج ,والعِنَايَةُ في إضَافَةِ الإدخالِ والإخراجِ إلى الصِدْقِ, أنْ يكونَ الدخولُ والخروجُ في كُلِّ أمرٍ مَنعوتَاً بِالصدقِ, جَارياَ عَلَى الحقيقةِ, مِن غير أنْ يُخَالِفَ ظاهرُه باطنَه, أو يُضَادَ بَعض أجزائِه بَعضَا, كَأنْ يدعو الإنسانُ بِلسَانِه إلى اللهِ, وهو يُريدُ بقَلبِه أنْ يَسودَ النَاسَ, أو يُخلِصَ فِي بعضِ دعوتِه للهِ ويُشركَ فِي بعضِهَا غَيرَه, وبالجُملةِ هو أنْ يَرى الصِدْقَ في كُلِّ مُدْخَلٍ منه, ومُخْرَجٍ, ويَستوعبَ وجوده, فيقولُ مَا يَفعَلُ ويَفعَلُ مَا يَقولُ ولا يَقولُ ولا يَفعلُ إلاّ مَا يَرَاه ويَعتَقِدُ به، وهَذا مَقَامُ الصِدِّيقين .
ويَرجعُ المَعنى إلى نحو قَولِنَا : اللَّهُمَّ تَوَلّ أمري كَمَا تتَولى أمرَ الصِدّيقين.
وقوله: ((وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)), أي سَلطَنَة بنصرتي عَلى ما أهمُّ به مِن الأمورِ, وأشتغلُ به مِن الأعمالِ, فلا أُغلَبُ في دعوتي بحجةٍ بَاطِلَةٍ، ولا أُفتَتَنُ بفتنةٍ, أو مَكر يمكرني به أعداؤكَ, ولا أضلُّ بنَزغِ شيطانٍ ووسوسته , والآية – كَمَا تَرَى – مُطلقَةٌ تَأمرُ النبي, صَلى اللهُ عليه وآله وسَلّم , أنْ يَسألَ رَبّه أنْ يَتَوَلّى أمرَه فِي كُلّ مُدْخَلٍ ومُخرَجٍ بالصِدقِ , ويَجْعَلَ له سِلطانَاً مِن عنده يَنصره , فلا يَزيغُ في حَقٍّ ولا يَظهرُ بباطلٍ)
وأشَارَ الشَيخُ نَاصرُ مَكارِم الشيرازي, في تَفسيرِه الأمَثَلِ, إلى أنَّ هَذه الآيةَ الشَريفةَ تُقدّمُ خَطّاً أسَاسَاً لبِدَايةِ ونَهايةِ حَرَاكِ الإنسَانِ بصِدْقٍ في المَسيرةِ الفَرديّةِ والاجتمَاعيّةِ, فذَكَر: (إنّهَا تشيرُ إلى أحدِ التعاليم الإسلاميّةِ الأسَاسيةِ, والذي يَنبعُ مِن روحِ التَوحيدِ والإيمَانِ: ((وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)), فَأيّ عَمَلٍ فَرديَ أو اجتمَاعيٍ لا أبدَأه إلاّ بالصدْقِ ولا أنهيه إلاَ بالصِدْقِ، فالصِدْقُ والإخلاصُ والأمَانَةُ هي الخَطُّ الأسَاسُ لبدَايَةِ ونِهَايةِ مَسيرَتِي ).
المَعطياتُ القيميةُ
1- أنْ يَكونَ دَافعُ وحَرَاكُ الإنسَانِ وهَدَفُه في هذه الحَيَاةِ الدُنيَا هو الصِدْقَ والمُطابقةَ والحَقيقةَ والإخلاصَ, فِيما يَدخُلُ ويَخْرجُ ,إيمَاناً وتَصديقاً, قَالَ تَعَالى:((ليْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) (177)البقرة .
2- (الصِدْقُ هو طريقُ الأنبياءِ والأوليَاءِ الرَبّانيين, حَيثُ كانوا يَتجنبونَ كُلَّ غِشٍ وخِداعٍ وحِيلَةٍ فِي أفكَارِهم وأقوَالِهم وأعمَالِهم, وكُلَّ مَا يَتعَارَضُ مع الصِدْقِ ,وعَادَةً فإنَّ المَصَائبَ التي نُشَاهِدُهَا اليَومَ, والتي تُصيبُ الأفرادَ والمُجتمعاتِ والأقوامَ والشُعوبَ، إنّمَا هي بِسَبَبِ الانحرَافَاتِ عَن هَذا الأسَاسِ، ففي بعضِ الأحيانِ يكونُ أسَاسُ عِلمِهم قائماً على الكَذبِ والغِشِ والحِيلَةِ، وفي بعضِ الأحيانِ يَدخلونَ إلى عَمَلٍ مُعيّنٍ بِصدْقٍ , ولكنهم لا يَستمرونَ على صِدْقِهم حَتَى النِهَايةَ , وهذا هو سَبَبُ الفَشلِ والهَزيمَةِ ).
3- الصِدْقُ هو أمرٌ حَسنٌ يَدركه العَقلُ العَمَلي للإنسَانِ , ومِن جُملَةِ ما يَنبغي فِعْلَه, عِندَ العُقَلاءِ ونِظَامِهم الأخلاقِي, وبه يَكتَسِبُ الإنسَانُ الوَثَاقَةَ في السُلُوكِ والتَعاطي مَع غيرِه فِي مُجتمَعِه, وهو يُسهمُ بِقَدرٍ كَبيرٍ في حِفظِ النَوعِ الإنسَاني وتَكريمِه وتَقَدّمِه , ورويَ عن الإمامِ عَلي بن أبي طالبٍ, عليه السَلامُ, أنّه قَاَلَ: (عِبَادَ اللهِ! اصدِقُوا، فإنَّ اللهَ مع الصَادقين. وجَانبوا الكذبَ، فإنه مُجانبٌ للإيمَانِ, وإنَّ الصَادِقَ عَلَى شَرَفِ مِنجَاةٍ وكَرامةٍ, والكَاذبَ على شَفا مِهوَاةٍ وهَلَكةٍ).
مَصَادِرُ البَحثِ
1- المِيزَانُ في تفسيرِ القُرآن , السَيّد الطباطبائي ,ج13,ص176.
2- الأمثلُ في تفسيرِ كِتَابِ اللهِ المُنَزّل ,الشيخ نَاصر مَكارم الشيرزاي,ج9,ص88 .
3- المصدرُ السابِقُ ,ص89.
4- تُحفُ العقولِ عن آلِ الرسولِ ,ابن شعبة الحرَاني ,ص151.
نشرت في الولاية العدد 104