موتُ الريادة في الشعر..!

د. علي مجيد البديري

من الصعب جداً أن نتحدث عن ريادات شخصية ونحن ندرك مدى اشتباك الكينونات المتعددة التي تتشكل منها ذات المبدع، أو عن نصٍ ريادي في عصر بدأت تنتشر فيه، وبشكل ملحوظ، الدعوة إلى الإبداع التفاعلي عن طريق الإفادة من تقنيات الحاسوب في تطوير آليات جديدة للتواصل بين النصوص واستحداثها من جانب، وبين متلقيها من جانب آخر، ويصبح فيها (النص المفرّع) بديلاً من النص بمفهومه القديم.

ويبدو أن هذا التحول النوعي في فهم النص الأدبي غير منقطع الصلة بانفتاح قصيدة الحداثة التي يعد أحدُ النقاد انفتاحَها أمام احتمالات التفسير أو حتى عدم اكتمال خطابها إنما يجسد دعوة للقارئ في المشاركة المنتجة، وجعله طرفاً من أطراف الفعل الشعري. و تقود سمة الانفتاح هذه إلى مزايا نوعية أخرى لهذه القصيدة منها ما يسميه بـ «التجميع والاقتباس» وهما يشيران إلى علاقات التجاور والتنافذ وبعض أنماط التناص الأدبي.
قبالة ذلك أرى أن السؤال بشكل مُلِّحٍ عن ريادة جديدة، نتمنى أن ينال شرفها الشعر العراقي، ومحاولة البحث في أسباب افتقادها وغيابها هو برأيي جهد يحقق هدفاً مزدوجاً، ففي الوقت الذي يفترض فيه هذا السؤال قيمة كبيرة ودوراً ريادياً لنص شعري ما، فإنه يضع هذا النص في أطار محدد يقيده، ويحد من استمراريته في أنْ يقولَ بوصفه رسالةً ابداعية، وسيحدد مساحة ضيقة يمكن أن يحقق النص فيها تفاعلاً مع نصوص لاحقة أو متزامنة معه، ويكون دور القارئ هنا التحري عن تجليات (قوة) هذا النص (مؤثراً) في غيره. وذلك ما يهدد وجود القارئ الحقيقي ويحجم دوره أيضاً في إعادة انتاج النص أو الحفر في مرجعياته وعلاقاته المتشابكة مع غيره من النصوص. ولعل في كثير من الدراسات النقدية التي قرأت النصوص الريادية لرواد قصيدة التفعيلة في العراق ما يصلح مثالاً على ذلك، إذ رأت فيها تقليداً كبيراً لبعض نماذج الشعر الانجليزي، يصل إلى درجة المطابقة في الجملة وتوزيع الأسطر الشعرية في فضاء الورقة، الأمر الذي أوصل هذه الدراسات إلى نتيجة تشكك فيها بحداثة هذه الريادة وحقيقتها.
لا شك أن البحث عن النص المغاير واختيار كل الوسائل والإمكانيات المتاحة في محاولة انتاجه أمرٌ ضروريٌ لديمومة الابداع وتحولاته، من غير أن نشطب على المنجز السابق برمته، أو نلغي وجوده بدعوى تجاوزه، إذ ستنتهي مثل هذه القراءة إلى تصور خاطئ وقاتل؛ ذلك أن النص بطبيعته الترابطية هو عبارة عن نقطة التقاء رؤوس أهرامات نصية كبيرة، ولا يمكن لوجوده أن يتحقق في رؤية تستند إلى افتراض أحاديته وتفرده منفصلاً عما سبقه أو يجاوره أو حتى يلحقه من نصوص. وبدهي أن بعض أسباب التفاوت في المستوى الفني للمنجز الشعري متأتية من تمايز الشعراء في الانطلاق من لغةٍ شبه خاصة في الكتابة، وعلى هذا فإن أي كتابة شعرية ، لا شك، هي ترجمة لموقف الشاعر ورؤيته وتجربته في هذا المجال، مضافاً إلى ذلك أن هذه الكتابة تمثل حركة الذات باتجاه الآخر بكل مصاديقه ، حركة منقبة / مكتشفة ، أو متسائلة أو مجيبة / مفسرة.
وإذا ما أردنا أن نقترب من أسباب غياب النص الشعري المتجاوز فإن المشكلة الرئيسة في ذلك، كما أظن، تكمن في طبيعة الانفتاح على الآخر، وتحفيز فعل المثاقفة معه من أجل إثراء الرؤية الإبداعية الذاتية ورفدها بما يوسع أفقها ويجدده. ففي الكثير من أشكال العلاقة مع الآخر نجد اختلالاً في توازن فعل المثاقفة، منشؤه الانهماك في الانصات لصوتٍ وإهمال آخر من الأصوات المتعددة التي تتكون منها الظواهر. وتتوزع أسباب عدم الإصغاء إلى الأصوات الأخرى بين التقصير في إدراك أهمية المكوّن المتعدد للظواهر ومنها الإبداع الشعري، والتكاسل عن قراءته، وبين القصور في القدرة على تحقيق فعل المثاقفة وقراءة الظواهر قراءة طباقية، باصطلاح إدوارد سعيد . وعلى ذلك فإن النظر إلى النص المتجاوز الذي نسعى إلى تخليقه يجب أن يتم على وفق ( النظر من خلال) الآخر الذي لا يمكن إنكار وجود تجلياته وأشكاله المتعددة، وضرورة الاتصال به والتواصل معه.

نشرت في الولاية العدد 106

مقالات ذات صله