الالحاد بين الاعتقاد واخفاقات الامة

هاشم محمد

يتخوف الكثيرون من انتشار ظاهرة أو فكرة الالحاد عند بعض الشباب في مجتمعاتنا الاسلامية بعامة ولاسيما المجتمع العراقي ، ولكن بنظرة فاحصة ومتأملة لهذه الظاهرة وتحليلها وتفكيكها والبحث في ماهية الظاهرة أصلا ! ولابد من البحث اولا عن منشأ هذه الفكرة ؟ ثم معرفة منظّروها ؟ وماهي طبيعة المجتمع التي ظهرت به هذه الفكرة ؟ وما هو رد فعل المجتمع آنذاك؟ ثم نأتي على مجتمعاتنا الاسلامية لنعرف مدى تأثير هذه الافكار في مجتمعاتنا، ولماذا تأثر بها بعض الشباب ؟ وهل الذين تأثروا بهذه الفكرة او الظاهرة هم مؤمنون بها يقينا واعتقادا ؟ او هو مجرد ردة فعل نتيجة اخفاقات وانكسار الامة ؟ ليتبين لنا بعد ذلك حقيقة الامر .

وقبل هذا وذاك لنعرف ما معنى الالحاد:
الالحاد: الميل ، والعدول ، الميل عن الدين ،و انتهاك حرمة الحرم . وفي القرآن الكريم : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) ، واللحد : الشق يكون في جانب القبر للميت ، ألحاد، ولحود .
والملتحد : الملجأ ، وفي القرآن الكريم : ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا )
و في اصطلاح الشرع : الالحاد هو من مال عن الشرع القويم إلى جهة من جهات الكفر ، فالملحد أوسع فرق الكفر حدا : أي هو أعم من الكل .
نشأة فكرة الالحاد بصورته الجديدة في المجتمع الغربي مع مطلع القرن الماضي من خلال افكار (فريدريك نيتشه . . ) وهو كاتب ألماني مصاب بالصرع توفي سنة 1900 ، أعلن إلحاده وموقفه ضد الدين ، ودعا إلى العنف والدكتاتورية ، فتبنى أفكاره هتلر وموسليني ثم تبناه الشيوعيون والنازيون ، ونشروا كتبه بعد موته بست سنوات ، وسموه فيلسوف القوة والإنسانية !
ونيتشه يدعو إلى الثورة على الدين والقيم ، فهو ناقم على الدين ، لأنه يقف أمام رغباته ونزواته ،وكذلك كان ناقما على الدين نتيجة تصرف بعض من رجاله لاسيما الذين يبررون للحكام ظلمهم ، لذا كان يعجبه كل من يهاجم الدين ورجاله ، ويتجرأ على مقدساته .
أما نيتشه نفسه فقد كان مصاباً بالصرع كما ذكرنا سابقا ، وأصيب بمرض جنسي أفقده القدرة على الزواج ، وعاش متسكعاً بين ألمانيا وإيطاليا والنمسا ، حتى أصيب بالجنون لمدة عشر سنوات أو أكثر ، حتى مات !
وكتبوا عنه أنه كان في صباه متديناً ، وكان أهله يأملون فيه أن يكون قسيساً ، لكنه سرعان ما تغير وسلك طريق الفساد الجنسي وأعلن (إني قتلت الله) .
كان نيتشه مغرماً بالقوة والجرأة إلى التهور ، وكان يكتب أفكاره الناقمة على كل شئ بعبارات قصيرة غير منتظمة ، كقوله ( الله مات ) و ( إن المحرك للإنسان هو حب السيطرة ) و ( لا تدخل على المرأة إلا والسوط في يدك ) ! ومع ذلك فان البعض قد تبنى كتبه بعد موته وسموه فيلسوفاً ، وسموا هذره فلسفة القوة والإنسانية !
فلنتأمل قوله : « بدأتُ مغامراتي الفكرية ، وفررتُ من الحيرة إلى الإلحاد ، فازدادت حيرتي ! فإلى أين أتجه ؟ أفلا يجدر بي أن أعود أدراجي إلى الإيمان ، أو أن أوفّق لإيمان جديد؟!
وقوله : « أنا لا أريد أن أكون نوراً لأبناء هذا الزمان ، بل أريد إيراثهم العمى ! وكل مولود جديد يأتي برجس إلى العالم ! فإياكم وممارسة الفضائل ! ولنكن أعداء فيما بيننا ، وليحشد كل منا قواه ليحارب الآخرين ! فخير السلام ما قَصُرت مدته ! وإن من الخير أن تكون الأقذار كثيرة في هذا العالم ! فلا معنى للوجود ، والحكمة قاتلة) !
هكذا كانت افكاره واراؤه فالتناقض فيها واضحا فهو متردد حائر لا يستطيع ان يتخذ القرار .. ذو نفسية معقدة ومريضة .. ومع ذلك يصر بعضهم على اتباعه وتمجيده .. ، وهنا ينطبق عليهم المثل الطيور على أشكالها تقع!
ثم ظهر بعد ذلك تيار ( الوجودية ) وهو تيار فلسفي ، يكفر أتباعه بالله ورسله وكتبه وبكل الغيبيات وكل ما جاءت به الأديان ، ويعدونها عوائق أمام الإنسان نحو المستقبل، وقد اتخذوا الالحاد مبدأ ووصلوا إلى ما يتبع ذلك من نتائج مدمرة ، ومن أشهر زعماء هذا التيار « جان بول سارتر « الفرنسي المولود سنة 1955 م ، وهو ملحد ويناصر الصهيونية ، وانتشرت أفكار هذا التيار بين المراهقين والمراهقات في فرنسا وألمانيا والسويد والنمسا وإنجلترا وأمريكا وغيرها ، حيث أدت إلى الفوضى الخلقية والإباحية الجنسية واللامبالاة بالأعراف الاجتماعية والأديان.
ويضاف إلى ذلك (الفرويدية) وهي مدرسة في التحليل النفسي، أسسها اليهودي(سيجموند فرويد) وهي تفسر السلوك الإنساني تفسيرا جنسيا ، وتجعل الجنس هو الدافع وراء كل شئ ، كما أنها تعتبر القيم والعقائد حواجز وعوائق تقف أمام الاشباع الجنسي، مما يورث الإنسان عقدا وأمراضا نفسية، ولم ترد في كتب وتحليلات فرويد أية دعوى صريحة للانحلال كما يتبادر إلى الذهن، وإنما كانت هناك إيماءات تحليلية كثيرة تتخلل المفاهيم الفرويدية ، تدعو إلى ذلك، وقد استفاد الإعلام الغربي ولاسيما الصهيوني من هذه المفاهيم لتقديمها على نحو يغري الناس بالتحلل من القيم وييسر لهم سبله بعيدا عن تعذيب الضمير .
وقد رفض عقلاء المجتمع الغربي ومفكريهم واستاذتهم هذه الفكرة اصلا حتى جاء في القانون الجنائي الذي أصدره الانكليز ضد الالحاد وفرضوا به عقوبة الموت حرقا على كل ملحد (حرق الملحد أو الزنديق haeretico comburend) .
والملاحظ من خلال السرد التاريخي لنشوء هذه الفكرة انها نمت وترعرعت بين المشوشين فكريا والمتمردين والمرضى النفسيين لان الايمان فطري موجود عند كل انسان ،لذا قال كريسى موريسون رئيس المجمع العلمي في نيويورك : ((ان البشر لا يزالون في فجر عصر العلم وكلما ازداد ضياء العلم سطوعا جلا لنا شيئا فشيئا صنعه خالق مبدع )) .
ان الإسلام حريص على ان يرشد الإنسان إلى تلك القوة المدبرة لهذا النظام و الايمان بها ، لأنها المدبرة لكل شيء وسبب الأسباب ، ويجعل الايمان باللَّه والوحدانية الركيزة التي تقوم عليها دعائم الاعتقاد بتوحيد الله ورفض أي اعتقاد اخر مبني على العقد النفسية والمجتمعية .
فالإلحاد معناه الضياع واللا انتماء الذي يجعل الإنسان تائهاً متحركاً تحركاً عشوائياً ينفعل بالعوامل من حوله ولا يؤثر فيها ، كما أنّ الشرك والوثنية التي تجعل من غير المطلق مطلقاً « من غير الإله إله » من الجهل علم ،ومن الفقر غنى ومن العجز قدرة، فسواء كان هذا غير المطلق هو القبيلة أو الحزب أو العلم الذي شق لنا السيطرة على الطبيعة ، إن استجبنا إلى المطالب فيتحول غير المطلق إلى إله يعبد ، وحينئذ يكون سبباً في تطويق حركة الإنسان وتجميد قدراته على الابداع ; وذلك بسبب أنّ هذا النسبي من القبيلة أو العلم ليس إلاّ حاجة يحتاجها البشر فان غالى بها وجعلها ; هي الاله وهي غير غنيّةً وغير قادرة وغير عالمة وغير مسيطرة، فحينئذ تكون عائقاً للإنسان من هدايته إلى سواء السبيل والتقدم والإبداع والعدالة ، لذا قال تعالى: (لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد ملوماً مخذولا)
لذا نشاهد كل (من يحاول ان يعتقد بالإلحاد) أنه متمرد ويدعو إلى الثورة على كل شيء! وهم ناقمون على مجتمعهم ودولهم الراكدة في واقع ظالم متخلف ، فيعجبهم كل من يعلن النقمة على هذا الركود ! فاتخذوا من الالحاد شعارا لرفض هذا الواقع الفاسد الذي تعيشه الامة الاسلامية على كافة مستوياتها ، فليس لهؤلاء المتأثرين بالإلحاد فكر او عقيدة بل انهم رتبوا اولوياتهم على الاتي:
-التأثر بالغرب وتعظيمه
-رفض الواقع والنقمة عليه
-رفض الدين والنقمة عليه بسبب بعض الافكار المتزمتة التي تحاول بعض الجهات الاسلامية المتزمتة فرضها داخل المجتمع
-رفض الواقع السياسي
لقد سوّق بعض الغربيين أفكار الالحاد الى شبابنا من خلال اثارة بعض الشبهات عن الدين ، وكذلك عن طريق استغلال الاخطاء المتراكمة من قبل الحكام وبعض رجال الدين الذين اوصلوا الامة الى ماهي عليه من تشرذم وتفكك وانهيار .
ولكن لابد من التفريق بين مصطلح الالحاد ومصطلح (اللاديني ) ،فالمصطلح الاخير يعني وجود فئة شبابية تعيش حالة اغتراب نفسي ومجتمعي وتعبر عن استيائها من الوضع الجديد بوجود احزاب الاسلام السياسي التي تحكم البلاد وفشلت في ادارتها على مدى ما يقرب من عقد ونصف , فتهرب نحو مقاطعة التدين دون ان يوجد لديها اي علم او دراية بقضية الالحاد والتي تحتاج الى رؤية فلسفية ومنهج حياتي مغاير لما هو مطروح من حالة رفض مجتمعي نابع من رد فعل تجاه ما يحصل في البلاد من فوضى وغياب الخدمات وهيمنة سلطات متعدد مع ضياع الامل بالتقدم والارتقاء بسبب تفشي الفساد وانتشار الرشوة والمحسوبية.
ان خيبات المواطن العربي وخذلان الأحزاب الأسلامية لناخبيها..(حلموا بحكومة اسلامية وبلاد غنية واكتشفوا انها خدعتهم وافقرتهم وقتلتهم في حروب طائفية) جاءت نتيجة الاسباب الاتية :
– فظاعة ما ارتكبته داعش والقاعدة من الجرائم اللاأخلاقية باسم الدين وتحت شعارات قرآنية ونبوية.
-اشاعة حكّام الاسلام السياسي للاحتراب الطائفي وتبرير القتل باسم الدين والمذهب.
-استشراء الفساد المالي والاخلاقي للسلطة والاحزاب الدينية الحاكمة
-قيام اسلاميين يدعون التدين بتفجيرات ارهابية تقف خلفها منظمات تتاجر بالدين.
-الاستبداد الديني الخاضع لسلطة سياسية تمنح لنفسها القدسية والحق فيما تفعل .
-دعوة رجال دين مسلمين الى من يوجب عليك بحكم اسلامك ان تكره الآخر الذي يخالفك في الديانة.
وتنوعت الأسباب الأخرى على النحو الآتي:
• ردة فعل ضد التطرف والجمود الديني، ونفور من الدين ناجم عن تشدد اجتماعي.
• ظهور أشياخ الغلو الذين بغّضوا الدين إلى الناس.
ويبقى نضال الاسلام المستمر ضد الالحاد والشرك هو في حقيقته الحضارية نضال ضد المشكلتين بكامل بعديهما التاريخيين ، وتلتقي المشكلتان في نقطة واحدة أساسية ، وهي : إعاقة حركة الانسان في تطوره عن الاستمرار الخلاق المبدع الصالح ، الفعال الذي يحاول النهوض بالامة ولاسيما الشباب وانتشالهم من تلك الافكار المريضة المطروحة في الساحة الى عالم المعرفة والنور والسمو بالنفس الى ساحة الاسلام والايمان الحقيقي كما اراده الله تعالى فهو الخير المطلق .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– الحج: 25
– الجن: 22
– القاموس الفقهي، سعدي ابو حبيب ،ص329
– ثمار الافكار،الشيخ علي الكوراني،ص61
-http://www.balagh.com/woman/trbiah/ pz 107 e 6 w.htm
– ابتلاءات الامم ، سعيد ايوب، ص358
– المعجم القانوني،حارث سليمان الفاروقي ج1،ص327
– تاريخ الفقه الجعفري، هاشم معروف الحسني، ص16
– بحوث في الفقه المعاصر، الشيخ حسن الجواهري، ج3،ص401
-الاسراء، 26
– تنامي ظاهرة الإلحاد فـي العالم العربي د. قاسم حسين صالح
-الفتاوى الواضحة، السيد محمد باقر الصدر،583

نشرت في الولاية العدد 109

مقالات ذات صله