أ. د. صادق المخزومي
في أيام الزيارات الكبرى وبخاصة زيارة الأربعين، إذ تطول الاستعدادات لها ويكون ازدحام الناس كثيفا واحتكاكهم شديدا، لاسيما في المحافظات الحاضنة لها مثل: النجف وكربلاء أو المدن التي تشكل مداخل الزيارة الرئيسة نحو: الديوانية والحلة؛ تبدو- على هذه الخارطة- الإشكالية التي تتمثل في مؤهلات الجريمة ومعدلاتها، وتكمن أبعاد رمزيتها بين توصيفين: رقيق أو كثيف، وما تصدر عنها من معطيات.
لا غرو في أنّ محصلة انخفاض الجريمة أو ارتفاعها وانكماشها أو انتشارها، ليست من توظيفنا ميدانيا أداة «الملاحظة بالمشاركة The Participant Observation» فحسب بل هي من نتاج الإحصائيات التي تنهض بها دوائر الشرطة في مدن الزيارة.
من تعريفات الجريمة: أنّها فعل يشوبه انحراف عن المعايير الجمعية، يدخل صاحبه طائلة المساءلة؛ يتمخض- عادة- عن تعارض المصالح والعادات والتقاليد، واختلاف الرأي حولها. وترجع المسؤولية في الظاهرة الإجرامية الى:
أولا- الجانب النفسي وتكوين الشخصية الفردية؛ ثانيا- الجانب الاجتماعي وتمثل ثقافة المجتمع من عادات وتقاليد وقيم؛ ومن خلال تفاعل الشخصية المضطربة في ثقافة مجتمعها ينتج أحيانا السلوك الإجرامي.
في هذا المجال المعرفي تبرز نظريات اجتماعية- نفسية تعنى بتفسير الإجرام: إما على أنه انحراف الفرد عن قواعد السلوك الاجتماعي، أو إنّ قواعد المجتمع تؤهل- أحيانا- قابلية الانحراف، على أنّ نظريّة الاختلاط التفاضلي (Differential Association Theory) التي جاء بها العالم الأميركي «إدوين سذرلاند E-Sutherland» تجمل بأنّ السّلوك الإجرامي مُكتَسب يتعلّمه الفرد كأيّ سلوكٍ آخر من خلال البيئة المحيطة والمؤثرة فيه، أي تتمحور النّظرية حول سلوك الفرد وارتكازه- بشكلٍ أساسي- على نوعية مجتمعه والأفراد الذين يُحيطون به ويختلط بهم.
غير أنَّ نظريّة الأنومي (Theory of Anomy) التي قال بها عالم الاجتماع الفرنسي «إميل دوركايم Emile Durkheim» تُشيرُ إلى الوضع الذي تختفي فيه المعايير الاجتماعيّة، وتُعدم فيه القواعد والأساسات الموجّهة للسلوك البشري، أي تنسِبُ الإجرام إلى مفهوم اللامعياريّة الاجتماعية، وعدم توازن السّلوك، واختلال المبادئ التي تنظم حياة الفرد، وفقدان التماسك الاجتماعي وذهاب مفهوم التّكافل الاجتماعي(1).
إن المجتمعات المتميزة بالكثافة السكانية، وتنوع الفئات الإثنولوجيّة القوميّة، وتعدد الهويات الإقليمية والانتماءات السياسية- بحسب علم الجريمة- يؤدي هذا التعدد والاختلاف في المجتمع –الى الخلاف وزيادة السلوك الاجرامي(2).
إلا أنه على الرغم من اتساع رقعة الزيارة وكثرة الوافدين إليها على تنوع مشاربهم في مجتمع ينوف على العشرين مليونا يعدّ من أكثر المجتمعات ازدحاما في العالم، نجد ان السلوك الانحرافي يضمر والجريمة تصبح منعدمة أو تكاد؛ لماذا؟
إن شحة الجريمة والسلوك المنحرف في مجتمع الزيارة يمكن تفسيره بأنّ فضاء الزيارات المليونية يتسم بمعايير اجتماعيّة وقيم ذات أبعاد أخلاقية ودينية، ويشتمل على القواعد والأساسات الموجهة للسلوك الإنساني، سواء للفاعلين في المواكب والزائرين، وأنه مجتمع منظم يمتلك مفهوم التماسك الاجتماعي وآليته في التمثلات الحركية المنتظمة للفاعلين فيه، وفي ضوء هدف بعينه تتجه بوصلة حركتهم الجماعية الدؤوبة، نحو قيمة اجتماعية- دينية، هي خدمة زوار الحسين، يغمرهم الشعور بالنعيم الداخلي (الاستمتاع) ولا ينتابهم رهق أو تعب، وتؤطرهم هالة من الطاقة المستمرة، فهم كخلية نحل لا تكل ولا تمل، وأبعد من هذا ينظرون بوجوه نضرة الى رحمة من ربهم ومغفرة؛ فهي من الجانب الاجتماعي- بالضرورة- لا تسمح أن يعصف- بأنوائه- العنف والسلوك المنحرف.
أما من الجانب النفسي فالفرد الذي اعتاد ان يلجأ الى قابلية الانحراف والفجور في سلوكه، إنه يغتنم الفرصة الولوج الى مجتمع الزيارة كمحاولة للخروج من الشعور بالفراغ من المعنى الاجتماعي، والتخلص مما ينتابه من الشعور بمركب النقص أو مركب الذنب، ولأجل أن يتمظهر بأن يكون سويًّا في منظار مجتمعه، وبخاصة إنَّ مجتمع الزيارة تؤطره المسحة الدينيّة، وما فيها من تجليات المغفرة والشفاعة والهداية، التي تؤهله للولوج إليه والعمل الجاد فيه، وتكرس فيه -ولو الى حين- قيمة الانضباط الشخصي، والإيثار، وخدمة الآخرين.
لا شك إن عناية مجتمع الزيارة بالقيم العليا في الحياة الاجتماعية، بما فيها من معاني دينية وإنسانية، تشكل- في وعي أفراده- ثقافة: العمل الاجتماعي، الضبط الاجتماعي، التضامن الاجتماعي، التواصل والتعايش السلمي، الأمن النفسي والاجتماعي، والشعور بالمسؤولية تجاه الذات والمجتمع، مما تجعل منه أن يكون مجتمعا مكرّسا لأن يقدم فائدة الى جملة أفراده، ولما كانت الجريمة ظاهرة اجتماعية، فحقيق بمجتمع الزيارة أن يكون مؤهلا في أن يسهم بقوة في مجال الوقاية الاجتماعية من الجريمة- بحسب- «بنثام Bentham»(3)، صاحب فكرة المنفعة (utility) وجعل الهدف «أكبر منفعة لأكثر عدد»؛ فإن نظريته تعنى بمعالجة أسباب الجريمة نحو: العمل على الحد من سبل الإغراء والاهتمام بالتربية ورفع مستوى الأخلاق وتحسين الظروف الاجتماعية.
نشرت في الولاية العدد 111