أ.م.د حيدر تقي فضيل
مما يؤسف له القول أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تعيش حالة من التخلف في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وذلك بفعل المخططات الغربية التي تعد أحد الأسباب التي هدفت وما زالت تهدف إلى تقويض دعائم دولنا تمهيدا لاستعمارها مجددا بشكل وإطار جديدين ومن ثم سلب خياراتها وجعلها بشكل أو بآخر تابعة للغرب في كل تفاصيل حياتها.
ويتجلى وذلك من خلال الغزو الثقافي الغربي لها، ولعل الذي ساعد الغرب في هذا الأمر وسهل له مهمته هو أنّ بلداننا العربية والإسلامية لم تصل إلى مستوى كاف من الوعي الذي يجعلها تلتفت إلى ما يدور حولها من مؤامرات في الغرف المظلمة أو اكتشاف الخطر المحدق بها من خلال الفكر الغربي المعسول، والسم المطعّم الذي دخل إلى دولنا باسم التكنولوجيا وثورة المعلومات و الاتصالات, والذي يبدو لي أنّ الخطر هو في سرعة المد الثقافي الغربي وتطور وسائله، الأمر الذي يجعل مسايرته مهمة عسيرة على الدولة والفرد، لاسيما وأنّ الفكر الإسلامي معطل إلى الحد الذي يجعلنا لا نحسن التعامل مع المد الثقافي والعولمة الغربية وفق الرؤيا الإسلامية الصحيحة التي ما في شك أنها وضعت حلولا ناجعة للتعامل مع الثقافات الغربية التي تهدف الى محاربة الفكر الإسلامي ونشر الفكر الغربي بما يحمله من سموم وآفات لتكون بديلا عن الفكر الإسلامي الأصيل ومحاولة زرع هذه الفكرة في عقول الشباب المسلم.
وما شبكة المعلومات الدولية والهواتف الذكية والقنوات الفضائية إلا أمثلة على سرعة المد الغربي الذي انتشر على حساب ضعف الثقافة العربية وتدهور الأوضاع الأمنية وضعف دور الدولة ورقابتها على المصنفات الفنية الغربية التي انعكست على المجتمعات العربية فظهر نمط التقليد والمحاكاة، وهذا في نظري أول بوادر نتائج العولمة الثقافية الغربية التي لا تقف عند هذا الحد وإنما تمتد إلى ابعد من هذا وصولا إلى قهر المجتمعات العربية وجعلها أسيرة للتطور الثقافي الغربي.
إنّ ولادة مفهوم العولمة التي كانت الطريق للغزو الثقافي الغربي ليس حديثا وإنما استند إلى محاولات هادفة لتضعيف دور الإسلام في الانتشار مستغلة التخلف الذي عاشه المسلمون في العصور المتأخرة الذي هيأ الظروف المناسبة لولادة الفكر الغربي، ونحن هنا لسنا بصدد تناول الفكر الثقافي الغربي بحد ذاته وإنما نتناول تصدير الفكر الثقافي الغربي إلى المجتمعات الشرقية مع ما يحمله من سلبية وتهتك ومجون باستخدام الوسائل الساندة، فنحن لسنا ضد الفكر الغربي كفكر، ولكننا ضد تصدير الفكر إلى شعوبنا وهو الأمر الذي هدفت إلى تحقيقه المجتمعات الغربية من خلال منظماتها الإعلامية التي تعلم سلفا أنّ ثقافتها هي ثقافة وان كانت مناسبة لها فإنها غير مناسبة بل وسلبية للمجتمعات الشرقية، وبهذا هدفت لخلق فكر بديل عن الفكر الإسلامي باسم الحضارة والتطور والتكنولوجيا وحاولت إقناع الشرق بان فكرها الثقافي يمثل بديلا للفكر الإسلامي الذي يعد فكرا متخلفا ولا يلائم المرحلة التي يعيشها المسلمون، وبدأ هذا المد الفكري يظهر بعد الحرب العالمية الثانية وظهور مراكز القوى الجديدة، فظهر حينئذ مفهوم التخلف من جهة والتقدم من جهة ثانية بحسب القوة العسكرية آنذاك، يقول الدكتور نعيمة شومان وهو من المختصين في هذا الشأن: ((إنّ مفهوم التطور والتخلف قد ابتكر في الواقع بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن انكسر الطرفان المتحاربان وانتصرت أمريكا وحلّ تعبير الدول المتخلفة محل تعبير دول العالم الثالث الذي كان سائدا في الاستعمال قبل الحرب، والذي كان يطلق على البلدان التي لا تدخل ضمن حوزة إحدى الكتلتين المسيطرتين في الخمسينات: كتلة الدول الشرقية، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي وكتلة البلدان الغربية وعلى رأسها أمريكا)) وبدأ المد الثقافي للقطب الواحد يظهر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حيث أخذت أميركا على عاتقها أمركة العالم الشرقي ثقافيا من خلال نشر الثقافة البديلة عن الثقافة الإسلامية، ولهذا الأمر تداعيات خطيرة عديدة على مستوى الفرد وعلى مستوى الدولة ومن هذه التداعيات:
1- يعد المد الثقافي الغربي انتهاكا سافرا للسيادة الوطنية للدول، فمحاولة فرض هيمنة ثقافية غربية تختلف كمّا وكيف عن الثقافة العربية الأصيلة يعدّ خرقا لسيادة الدول بما أنّ السكان يمثلون احد العناصر الثلاث التي تتكون منها سيادة الدول ولا يخفى خطر السيطرة على عقول سكان الدولة ثقافيا وما في ذلك من خطر السيطرة عليه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
2- استعباد الشعوب من خلال الاحتفاظ بأساسيات التكنولوجيا التي اعتمدها الغرب في نشر ثقافته سواء من خلال شبكة المعلومات الدولية كان ذلك أم من خلال ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي التي يعد خطرها عظيما إذا لم يحسن استغلالها بالشكل الأمثل والصحيح.
3- فتح قنوات تجسسية على دول العالم الثالث من خلال فتح مواقع خاصة للتواصل الاجتماعي تقوم بالتجسس على ابسط القضايا المتعلقة بالفرد ومن ثم معرفة ماهية تفكيره ومن ثمّ التأسيس على هذه الماهية وصولا إلى السيطرة التامة عليه .
4- هدم القيم الأخلاقية للفرد المسلم من خلال التحكم بغرائزه وأهوائه وجعله أسيرا لهما، وذلك من خلال المواقع المشبوهة على شبكة الانترنت والقنوات الفضائية التي هدفها إثارة الغرائز الحيوانية وتدمير الشخصية المسلمة، يقول عمار عبد الله ناصح في كتابه أخلاقية العولمة في القرآن الكريم: مقارنة مع أخلاقية العولمة اليوم ((قد يقول قائل لماذا خصص القرآن من الفساد فساد الحرث والنسل؟ أقول إن تخصيص القرآن الكريم لفساد الحرث والنسل ما ذلك إلا لتنبيه المسلم إلى أنّ خطر ما تتعرض إليها المجتمعات من قبل المفسدين هي هلاك الحرث الذي يقوم به عماد معاش الأمّة فإذا هلك الحرث بسيطرة المفسدين في الأرض أصبح المفسدون يتحكمون في رقاب العباد فيدر الرزق على من يمشي بركابهم ويمنع عمن يعارضهم من المصلحين
أمّا هلاك النسل فالمفسدون في الأرض دوما غايتهم هدم كيان الأسرة لأنّ نساج الأسرة يجعل المجتمع متماسكا أمام مخططات المفسدين في الأرض الذين يريدون أن تكون الشعوب كالبهائم لا قيم لها ولا أخلاق ولا روابط عائلية، فالعولمة الغربية أهم ما تريده من مجتمعات العالم اليوم بعامة والمجتمعات الإسلامية بخاصة لأنها أكثر المجتمعات تماسكا بالأسرة وبالقيم والأخلاق لتحكم السيطرة عليه)). وهذا هو أخطر ما موجود في العولمة الغربية . التي على الرغم من اختلاف الكتّاب الباحثين في تحديد معناها إلاّ أنها لا تخرج عن هذا الإطار, أعني إطار الهيمنة والاستعلاء وهي في نظري المنهج الجديد للغرب لفرض سيطرته سياسيا واقتصاديا وعلميا واجتماعيا وثقافيا على مجتمعات العالم الثالث، هي شكل جديد من أشكال الاستعمار والهيمنة والسيطرة على هذه الشعوب
ولا اعتقد أنّ تعريفا يخرج عن هذا على الرغم من كثرتها فمثلا يرى الدكتور صالح الرقب بأنّ مصطلح العولمة(globalization) يركز على تطورين مهمين هما ((التحديثmodernity و الاعتماد المتبادل inter-dependence ويرتكز مفهوم العولمة على التقدم الهائل في التكنولوجيا والمعلوماتية، بالإضافة إلى الروابط المتزايدة على كافة الأصعدة على الساحة الدولية المعاصرة)). فيما يذهب آخر إلى أنها ((عالمية العادات والقيم والثقافات لصالح العالم المتقدم اقتصاديا، وبمعنى آخر محاولة سيطرة قيم وعادات وثقافات العالم الغربي على بقية دول العالم خاصة النامي منها، بشكل يؤدي الى خلط كافة الحضارات وإذابة خصائص المجتمعات، هذا بالإضافة إلى تهميش العقائد الدينية)).
ويرى آخر بأنها ((عملية اختراق للفرد والدولة والأمة تهدف لإلغاء الهوية والخصوصية الدينية والثقافية لتحل محلها ثقافة المستعمر والمهيمن عالميا)) ومن خلال اطلاعي على أكثر من كتاب في هذا الشأن فاني لم أجد تعريفا يتجاوز ما تم ذكره، فالعولمة تعني الهيمنة على الشعوب والسيطرة عليها.
5- استعباد الشعوب الإسلامية اقتصاديا وجعل اقتصادها تابعا بشكل أو بآخر للاقتصاد الغربي ومن ثم السيطرة على مقدراتها وجعل الاقتصاد الأمريكي على ضعفه هو المهيمن على الاقتصاديات العربية الممزقة، وما تجميد رؤوس الأموال العربية والإسلامية في مصارف الدول الغربية وبخاصة أمريكا في مناسبات مختلفة إلا دليلا على ما نقول.
6- فرض القرار السياسي الغربي على القرارات العربية وتهميش دور العرب في القرارات الخاصة بهم وتهميش دور الجامعة العربية وفرض الإرادة والهيمنة الأمريكية عليهم وتبديل الرؤساء تبعا لمصالح الغرب .
نشرت في الولاية العدد 112