إشكالية الغموض بين النقد والشعر

شاكر القزويني

ان محاولة الشعر في ايجاد بنيته اللغوية الخاصة به هي بحد ذاتها عملية هدم للعملية الكلامية ـ أي اللغة ـ وبناءها السردي العادي للقيام بإعادة البناء اللغوي على شكل له انغام وايقاعات تتماهى مع الموسيقى عبر رصف الكلمات والحروف في دلالاتها ورموزها ومعانيها الشاعرة، لذا هي عملية خلق مبدع لا يتقنها سوى شاعر.

الصلة بين اللغة والفكر..
يقول الناقد الفرنسي (جان كوهن)، الشعر ليس نثراً يضاف إليه شيء آخر، بل هو النقيض للنثر، فيعني بذلك عملية الانزياح والهدم هذه وإعادة البناء وفق لغة ورؤى شاعرة، في عملية مترابطة بين اللفظ والمعنى، مما يعني وجود رابط عضوي بينهما، إذ يقول (جومسكي) : أن هناك صلة جوهرية بين البنية الجوهرية للغة والكفاءة الفكرية، وهي صلة العقل باللغة، تلك التي تخلق اللغة الشعرية القادرة على مسك أدوات التعبير عن المشاعر والحاجات والغرائز والتساؤلات نحو العالم ونحو أنفسنا.
وبما ان اللغة الشعرية ينتابها الكثير من الغموض كان لا بد لأحد من فك هذه الشيفرات المتراكمة بعضها فوق بعض، داخل نسقها الشكلي تقليديا كان أم حديثا، فتصدى الباحث المتخصص بهذا النتاج الفني والمعرفي لوضع القواعد والأصول من خلال ما ألف من نتاج شعري، وهو عمل يعد نشاطا ابداعيا، كون ان تنوير النص في الفعل النقدي عمل ابداعي ولا ريب، وعبر تاريخ طويل من هذا الجهد المضني وهو يشد طرفا من أطراف الصراع بين أصحاب الرأي والمعرفة في هذا المجال الإبداعي، مما تمخض عن نضجٍ للقواعد والمواصفات التي لازمت النتاج الشعري لقرون طوال، وهو يتعاطى مع النص ويتداخل معه موضوعيا وذاتيا في عملية تضيء مكامن النص وتستنطق مكانز الصمت فيه وهي تفرز الغث من السمين عبر منهج نقدي اتفقت اغلب الأصوات عليه، كما حصل مثلا حينما أصبح ( عمود الشعر ) مقياسا ابداعيا لمرحلة من هذه المراحل.
اغتراب النقد
لكن النقد الحديث أخذ منحا يكاد يغترب عن النص عبر التموضع في دائرة النقد وملكة الناقد في مسلك قد يبدو استعراضيا لهذه الملكة النقدية وطرائقها في تحليل النص ووفق المنهج الذي اما ان يتجه انطباعيا نحو انفعالات النص وجمالياته الشاعرية وخيالاته أو الذهاب باتجاه الانغماس في تفكيك النص بنيويا أو سيميائيا أو اسلوبيا أو غيرها من الرؤى والمناهج النقدية العقلانية المتجاوزة للمنحى الانطباعي وذائقته المتأثرة بالنص، فنجد هنا غالبا ما يصعب على الشاعر والمثقف المعني بهذا الجانب من النتاج الانساني المبدع، أن يتعرف أو يعي ما يريد الناقد وهو يستعرض منهجيته في التحليل والدراسة التي يسقطها على نص شعري معين، لتتحول تلك النظرة والتأويلات والتحليلات في تلك القراءة الى لغة أصعب من لغة الشاعر، أو الى رأي قابل للدحض والتضعيف من قبل الدارسين الآخرين، حينها أو فيما بعد.
وتكاد تضيق هذه العملية التي تتماهى في وصفها الى حد ما مع بعض المحاولات الشعرية التي تمردت على العقل وذهبت الى الهذيانات والهلوسات وفنتازيا التخيلات الخارجة من اللاوعي في طريق يحاول الاتساع بالرؤى والحلول التي وجدها قد ضاقت باللغة وطرقها التقليدية لإحداث الأثر المطلوب من الشعر باسلوب يبتكر القفز على الواقع بطرق حالمة أو غائبة عن الوعي.
الثورة على التقليدي
وللثورة على الأعراف والتقاليد الشعرية التقليدية وحالة التمرد على الفحولة التي اعتلت الشعر العمودي التقليدي، استحقاق ألزم الأقلام الناقدة هي الأخرى ان تنبري بمناهجها النقدية ورؤاها التحليلية لتتمكن من احتواء هذه الثورة الشاعرة للواقع العربي الجديد بكل انكساراته ونكوصه وجموده وتخلفه وضعفه وخساراته اللامتناهية، هذا الحدث الشعري أعلنته الظواهر الشعرية الحديثة من خلال التطور الهائل في الأنساق الشكلية والتجريبية للشعر، متأتيا ذلك من خلال التأثر بالنتاج الأدبي ولا سيما الشعري الأجنبي والتغييرات التي حدثت فيه منذ القرن التاسع عشر ولحد الآن، والتوجه القوي لهجر الشعر التقليدي والفخم ـ كالأيامبي ـ والنزوع نحو قصيدة النثر هناك والتي حمل رايتها (بودلير)، وتأثر شعرائنا بهذه الموجة العاتية التي حطت على شواطئنا وتأثر بها الكثيرون ومنهم روادها في العراق كالشاعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وغيرهم وان كانت تسير بشكل متصاعد وتدريجي التحول، إذ كانت المرحلة الأولى عند هؤلاء الرواد في قصيدة التفعيلة، وما أعطى زخما لذلك الانتقال هو آراء بعض الناقدين العرب كـ(أبن طباطبا العلوي) حين فتح بابا واسعا للنثر حين قال : قد درج على القول بأن نقض البناء الشعري وجعله نثراً لا يبطل فيه جودة المعنى ولا يفقده جزالة اللفظ. فبهذا المعنى تعلو قصيدة النثر الى ان تلامس الشعر اذا ما ارتقت لتبني الإيقاع والشكل الصوتي المطلوب وان كان مزعوما بالخفاء دون الظهور الجلي ـ كالشعر التقليدي ـ فضلا عن دلالاتها وصورها ورموزها الشعرية، كل هذا التغير والتحول يقودنا الى ضرورة تجديد وتطوير المناهج النقدية ومنظار الرؤية الى النص، وهو ما حصل فعلا ولاسيما في الغرب لحيازته قصب السبق في هذا التغيير أو التمرد الذي انقض على كل تقليدي قديم.
ورغم كل الذي حصل من تطور أو تغير في المناهج تبقى رؤية الناقد في نظرته النقدية الى هذا الفن في أمور معينة مشتركة الا انها قد تتفاوت من زاوية الرؤية، كالنظر الى وحدة الموضوع والقبول بتعدد الموضوعات في النص الواحد، أو انحرافها عند (ابن قتيبة) الى الوحدة النفسية، في إطار النص وتأثيره عند المتلقي والترابط بين أبيات النص، أو عند (الحاتمي) حين صور النص أو شبهه على انه جسد واحد له أجزاء كل يقوم بدوره العضوي.
قراءة ضبابية لنص غير مفهوم
واذا ما علمنا ان مفهوم التجديد مرتبط بمفهوم الثورة، الذي يعني الانقضاض على المألوف المعتاش لتحويله الى أطلال، وتأتي الثقافة كمحرك دافع للشعر وهو يعتلي صهوة حياة الشاعر وما يمتلكه من أداة لغوية، فالثقافة العالية مع وجود المستوى المطلوب من الوعي الفني تنتج نصوصا شعرية مبدعة.
وقد كانت الثورة على الأوزان والعروض والقوافي هدفاً للنسق الشكلي الجديد الذي لن يكتف حتما الا بخرقه الايقاعات والرمزية والكثافة الواجبة الحضور عنده وتناولها وفق المنظور الجديد لهذا التحول.
وغالبا ما تكون الإشكالات النقدية التي يتعرض لها الناقد، انها تميل الى معالجة المعاني والرموز والدلالات والاتجاهات الفكرية للنصوص أكثر من معالجتها للعناصر الشكلية التي تشكل العمود الفقري لها. وتترسخ تلك الأزمة في مواجهة الشعر الحديث، حينما يحاول الناقد أن يقرأ نصا حديثا ما، محللا ومفسّرا، في وقت نجد ان العملية هذه غالبا ما تكون عصية بسب تعقيدات النص وضبابيته، وبهذا سيتجاوز الناقد دوره في التحليل والفهم مما يقلص دوره في سبر غور النص، مما يدفع بالناقد الى استعمال لغة تحليل وتأويل تحوم حول النص بشكل يكاد يكون غير مفهوم وذلك ما يزيد من صعوبة فهم النص الشعري الحديث، مما يجعل من مهمة الناقد للشعر الحديث مهمة شاقة.
وليس من نافل القول اذا قلنا ان الشعر يفقد كينونته الحضارية وواجبه الرسالي الى حد يمكن القول فيه ان الشاعر يخون شعره حينما يفقد الرؤية الواعية للواقع وهمومه ولا سيما تلك التي تلامس الهم الحياتي الانساني ومن خلال نظرة تسبر غور الواقع لتمنحه الصورة المطلوبة التي تبتكر الاجابات التي لا يدركها الا شاعر مبدع. رغم ان هذا المفهوم بعيد عن واجب النقد، إلا اذا كان نقدا إعلاميا في اطار الرؤية الشخصية والاجتماعية فحسب.

نشرت في الولاية العدد 113

مقالات ذات صله