التحولات الفكرية وانعكاساتها التعبيرية في تصميم ملصقات ما بعد الحداثة

د.أحمد عبيد كاظم /جامعة الكوفة / كلية التربية

بدايات العقل المعرفي تشير إلى مجموعة من النصوص غير معنونة لموضوعات تلك النصوص تسمى ب (الفلسفة الأولى) أو (علم اللاهوت) وتسمى أحياناً بالحكمة وسميت بالفلسفة الأولى تميزا لها عن الفلسفة الثانية وهي العلم الطبيعي القائم على المنهج العلمي التجريبي, بالحكمة لأنها تبحث في العلل الأولى, وتسمى أيضاً بــ(العلم الإلهي) لأن أهم مباحثها هو الله باعتباره الموجود الأول والعلة الأولى للوجود وكل تلك الأفكار والنصوص تسمى بــ(الميتافيزيقيا) وتعني البحث فيما وراء الظواهر المحسوسة, وهي مرادفة للخارق للطبيعة في اللغة اللاتينية.

الميتافيزيقيا أعم العلوم
والباحث يعتمد على تصنيف الأفكار الميتافيزيقية ونقدها في توضيح تاريخ الأفكار وتحولاتها, والسبب في ذلك لأنها المنظومة الشاملة من المفاهيم التي سيطرت على الفكر الغربي لحقبة طويلة من الزمن, فالميتافيزيقيا لا تبحث عن الواقعي وإنما عن الحقيقي, ما هو وراء الواقع والخبرة الحسية, فخبرتنا الحسية تفسر الظواهر تفسيرا شرطيا, وتعتمد على الملاحظة والتجريب, وفي الميتافيزيقيا التفسير يعتمد مقولات معينة تقع خارج خبرتنا الحسية وهي تشترط وجود عقل وان كانت لا تنكر الواقع المادي.
هذه المفاهيم الكلية المجردة المتعالية عن العالم الواقعي تدعو للاعتقاد بأن ما يؤسس لوجود الأشياء هو وجود مبادئ وقواعد ثابتة لها مركز تتمحور حوله وعدّها وجود مطلق, دون الاهتمام بالكائن البشري الذي يتميز بالديناميكية والتغير والتحول, وهي غير خاضعة للحس التاريخي وصيرورته, وتهمل الشروط الطبيعية والوجودية والزمانية والمكانية التي لها ابلغ الأثر في حصول التحولات والتغيرات في الفكر والواقع, فأرسطو يؤكد إن علم الوجود أو ما بعد الطبيعة هو علم قائم بذاته وقد انفرطت منه باقي العلوم, وان الميتافيزيقيا اعم العلوم وأكثرها تجريداً لان موضوعها الأساس والنهائي هو الله من حيث إن الله هو العلة الأخيرة لكل ما هو موجود.
العلم في خدمة اللاهوت
في مرحلة العصر الوسيط أصبحت الكنيسة المسيحية القوة الرئيسة التي تشكل حياة العصور الوسطى وفكرها, وقد تبلورت فلسفة العصور الوسطى في كتابات القديس توما الاكويني (1225-1274). وفي هذا العصر أصبحت العلوم والمعارف والمباحث العقلية دينية خادمة للاهوت, فجميع الكتب المنزلة زاخرة بقضايا مسلم بها, وقضايا كلية لا جدال فيها, واعتماد المنهج الاستنباطي الأكثر ملائمة والكتب المقدسة, فقد أصبح قياس أرسطو خصوصاً ومنطقه عموماً هو منهج البحث طوال العصور الوسطى. ويمكننا تحديد منابع الفلسفة الوسيطة من أساسين هما الكتب المقدسة وكتاب الطبيعة لأرسطو. كما ورث العصر الوسيط من أوغسطين عقيدة (المعلم الداخلي) وهو الله الذي يجيب من الباطن عن مطلب النفس. وفي عصر النهضة كان هناك الكثير من الومضات التي تنبئ بتطورات جديدة, من خلال الانتباه إلى أهمية التعريفات الدقيقة للمصطلحات والاستنباطات الدقيقة من مقدمات للحجة في الاقسية, لكن المشكلة تكمن في عدم امتلاكها منهجاً للبحث عن حقائق جديدة, وفي المدة ما بين (1600-1690) كان فلاسفة عصر النهضة ومنهم هوبز وديكارت وأسبينوزا الذين استطاعوا عن طريق المناهج الحديثة ومنهج بيكون ذا النزعة التجريبية أن يؤمنوا بأن المصدر الأول لكل معرفة هو تجربة الحواس والتعميمات تستمد من الملاحظة والتجربة بصورة استقرائية.
نحو العلم الحديث
فقد وضع فرنسيس بيكون (1561-1726) أساس المنهج التجريبي الاستقرائي وكان سابقاً المنهج يبدأ بمقدمات كلية ليخرج منها بنتائج جزئية دون اللجوء إلى الحواس أو التجريب, كما في العصور الوسطى ثم الانقلاب على هذا المنهج من قبل بيكون, هو بداية التحول نحو العلم الحديث, إذ أن المنهج الجديد يعتمد على الحواس والتجريب يبدأ من جزيئات ليخرج بنتيجة كلية, هي قانون من قوانين الطبيعية, ويرى بيكون أن المشاكل الكبرى لا تحل عن طريق التأمل وإقامة الحجج اللفظية, إذ ضرورة استخدام الحواس وعقولنا في ملاحظة الوقائع وتسجيلها.
أما ديكارت (1596-1650) فقد عدَّ العقل المصدر الوحيد للمعرفة, قد فصله عن المعرفة الحسية, وهنا عملية تفكيك وفصل بين مبدأين أثنين يستقل كل منهما عن الآخر, وهذا بحد ذاته إعلان ثورة في القرن السابع عشر تتجه لانتصار العقل على الإيمان وتعبر عن الثقة الكاملة بقدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة, وتعزيز الذات الواعية, ضاربة عرض الحائط كل مرتكزات العقل الكلاسيكية التي تعتمد مقولات الدين والمثالية. وهكذا نجد أن ديكارت يسير في منهجه باتجاه من الحس إلى العقل, ومن المادة إلى الفكر, ومع ديكارت أصبح الإنسان هو الأساس والمركز والحقيقة, والذات الإنسانية هي النقطة المركزية في تفسير ظواهر الكون. ومع الفلاسفة المثاليين الألمان وعلى رأسهم (كانت) (1724-1804) الذي يرى أن الميتافيزيقيا هي معرفة ذهنية مجردة لموضوعات متعالية ليس لها علاقة بالواقع فهو يشك في مقدرة الميتافيزيقيا بوصفها علماً قبلياً يفسر الواقع ابتداءً من تصورات منطقية, إذ لابد من السعي لإقامة ميتافيزيقيا على أسس علمية مثل الرياضيات وعلوم الطبيعة. فهو يسعى للتوفيق بين طرفي الحس والعقل, وبين الأفكار القبلية والبعدية لكي تصبح الميتافيزيقا علماً ذا قضايا تركيبية قبلية كالرياضيات والفيزياء. لعل من الضروري ذكر أن نقد (كانت) كان موجهاً بالتحديد للعقل الفلسفي التأملي, إذ لابد من تحليل المعارف والأسس والأصول التي يبني عليها العقل أفكاره, ثم إعادة بناءها بصورة منظمة, أي تحليل الجانب القبلي للمعرفة التي تعتمدها الذات لما يصلها من العالم الخارجي, أي تحليل الكل إلى أجزاءه وتفكيك عناصر الموضوع, والاستعانة بالقوانين لبيان النتائج مع التركيز على العلاقات بين عناصر الجزء والكل, وبيان صورة هذه العناصر وبنياتها والأسباب والمسببات تقاس على أساس التجارب السابقة واتصال الظواهر مع بعضها البعض وتكرارها.
الوجود صراع تحكمه الارادة
أما نتشه , تأثر نتشه بالفلسفة اليونانية وخاصة فلسفة هيراقليطس, فهو يتفق معه على إن الكون (المتكون) يكون دائما في حالة من الحركة المستمرة ومن التغير وان الوجود عبارة عن صراع تراجيدي تحكمه إرادة التغير والصيرورة الدائمة. فكان رفضه للماضي وكل ما هو تقليدي والدعوة إلى تحول جذري لكل القيم والمفاهيم السائدة. وعد التغير سمة التجدد والرقي, وخلق أسمى المعاني لفن الحياة, وإذا كان الإنسان صانع القيم القديمة, فباستطاعته أن يصنع قيما جديدة أكثر فعالية ولا تحتمل معنى ثابت, طالما مطالب الحياة متجددة فأنها تقتضي قيم ومعان متجددة, وبالتالي إخضاع كل شيء للتغير يشكل مفهوم ما بعد الحداثة. وفلسفة (نتشه) هي الطابع الذي أتسمت به فلسفة ما بعد الحداثة, ذلك لأن المغالاة في العقل في مرحلة الحداثة دفعت نتشه إلى نقد الحداثة وتهديم جميع المسلمات الفلسفية والفكرية وهي رفض المبادئ المركزية والقيم الكلية والمراجع والنظم باتجاه تأويل النصوص وزعزعة المعنى الثابت وتبادل المراكز وتهشيمها وتعدد القراءات والعدمية والتشظي والتفكيك. فالعقل وكل ما يؤسس عليه يقول بالثابت والمنتظم الذي يتنافى مع الصيرورة التي تحكم الوجود, والوجود الحقيقي هو الوجود الحي إذ أن كل كائن يمتلك إرادة خلق حياته بنفسه وقادر دائماً على تغييرها. وهذا الوجود يسير باتجاه الاندماج المباشر في الطبيعة التلقائية في أطوارها الأولى, هو إقبال يتصف بالإقبال على الحياة في تلقائيتها المباشرة. وهذا الإقبال على الحياة ناتج من تجارب فكرية مر بها الإنسان إلى أن يصل خطى الإنسان الأرقى الذي يدعو إلى التغير والانقلاب والارتقاء من أجل تحقيق الإبداع, وطرحه لفكرة العود الأبدي يقصد بها عودة فعل الصيرورة اللانهائي.
مفهومي الهدم والعدمية
والباحث يحدد الانعكاسات التعبيرية للتحولات الفكرية في تصميم ملصقات ما بعد الحداثة في جانبين هما 🙁 مفهوم الهدم . مفهوم العدمية ).
والمقصود بمفهوم الهدم الدعوة إلى هدم وتقويض التراتبية الهرمية التي إقامتها الميتافيزيقا في مراحلها الكلاسيكية والحداثوية لبنية تشكيلية منظمة ومغلقة, من حيث الشكل مثلاً تتناقض مع مبادئ مدرسة الباوهاوس وحركة دي ستيل والمدرسة السويسرية في تصميم الملصقات, القائمة على تأكيد الجانب المثالي والوظيفي في الترتيب والتنظيم ووحدة التصميم, بل إن المدرسة السويسرية تفرض توظيف شبكات رياضية (Grids) باعتبارها وسيلة قوية في تنظيم المعلومات وعرضها بطريقة متوازنة ومنسجمة كما في النماذج التالية :
سمات التحولات الفكرية للحداثة العقلانية الغربية في أسلوب المدرسة السويسرية القائمة على توظيف الشبكات الرياضية والهندسية في تصاميم المطبوعات الإعلامية
أما من حيث المضمون فإن هذه الدعوة تتناقض مع المدرسة السويسرية في الجانب التعبيري التي تدعو إلى التعبير عن هموم وواقع المجتمع ومشاكله بعيداً عن تجارب وذاتية المصمم, أما ملصقات ما بعد الحداثة لم تستجب لتلك الدعوات والباحث يحدد سمات تلك التحولات في الجانب التعبيري في البنية الإنشائية للملصق بما يلي :
1-عدم الاهتمام بتسلسل أفكار الرسالة وضعف الترابط بينها معتمداً تحولات شكلية لبروز إيقاع الفكرة, على نحو إرادي وقصدي من خلال اللعب بالبدائل التيبوغرافية (العنوان والصورة والنص) وتداخل الأزمنة والأمكنة ضمن فضاء واحد بإقحام العالم الحقيقي في تجربة خيالية.
2-الجرأة في اختيار الرموز ذات الطابع السياسي والثقافي والتجاري ومزجها بأسلوب يعتمد الانتقائية العشوائية والتلقائية في تنظيم وتوزيع المفردات ولا تخلوا من صدفة أحيانا في إخراج العمل الفني, مختصراً الموضوع التاريخي والثقافي إلى مجرد تراكم وتكرار لصور موجودة أصلاً ضمن أسلوب تجميعي معاصر.
3-توزيع العناصر التيبوغرافية في الأعلى والأسفل والجوانب, ولا يوجد بداية ولا نهاية في تنظيم أولويات الفكرة .
4-ترك العلاقات ناقصة مختلة وفق شروط الإدراك البصري والتباين, إذ لكي ترسخ الرسالة في ذهن المتلقي فلابد من عوامل تساعد على الإدراك منها (التقارب, التشابه, الاستمرارية, الإغلاق), وعدم وجود قواعد تربط العناصر المختلفة بمعنى لا ضرورة لأن تتكافأ الخطابات مع بعضها البعض.
أما الجانب الثاني المتمثل بمفهوم العدمية, وهي عدمية ناتجة عن تفكك عالم المثل والقيم الكلية وهذا يعني اللانظام والفوضى والتشظي باتجاه ما هو تعددي ومتنوع, وملصقات ما بعد الحداثة نجد في خاصية التشظي والتفكيك التي يمتلكها العمل الفني قيمة معرفية بإمكانها منح أي عنصر تيبوغرافي أي موضع قابلية تفكيك المعنى, وهذا ما يقود إلى قراءة أخرى أي مزج بين قراءة جديدة وأخرى مختلفة, وهذا ما ينعكس في الجانب التعبيري خلخلة التنظيم الشكلي للعناصر وبالتالي خلط المدلولات وصولاً إلى عنصر المفاجأة والدهشة لدى المتلقي الذي يقوم بتأويل النص البصري (الملصق).
والباحث يحدد الانعكاسات التعبيرية للتحولات الفكرية في جانب العدمية في تصميم ملصق بما يلي:
1-تكرار النصوص الكتابية والصور والرموز والأرقام والتكوينات الزخرفية في الشكل والحجم واللون كخلفيات متعددة للعمل التصميمي مع تحقيق التدرج في قيم الفاتح والغامق لها مضامين وأبعاد تشكل مساهمة حيوية في إنتاج المعنى.
2-إنتاج أعمال تصميمية يقصد المصمم من ورائها إحداث خلل في الشكل من خلال تلاعبه بعلاقات التوازن والتباين والتناسب والسيادة كصور محورة شكلياً ولونياً مما يولد إحساساً بالتنافر وعدم الشعور بالراحة وعدم استحسان قبول توزيع العناصر التيبوغرافية.
3-التأكيد على التفاصيل في بناء العمل الفني, ومحققاً تباينا شكلياً وملمسياً لتحقيق الجذب وتركيز الفكرة, من خلال أسلوب التعقيد والتنوع والاختلاف في ترتيب العناصر التيبوغرافية.
والباحث يجد أن جميع الفقرات المذكورة أعلاه (1, 2, 3) هدفها المساواة بين المهم والاهم وشد انتباه المتلقي لأشياء قد تبدو عديمة الأهمية أو تحويل الفن إلى شيء يمكن لأي فرد أن يعمله, وان كل سلعة تجارية أو شخصية مشهورة لها خاصية مشابهة لخاصية السلع الاستهلاكية, أي إعادة إنتاجها كسلعة في وسائل الإعلام مرات ومرات, والهدف النهائي هو التحرر من القيم والأداءات الفنية التقليدية باتجاه التداولية.

مقالات ذات صله