ولادة الإنسانية

رياض الخزرجي

عندما نتحدث عن بعض المفاهيم الأخلاقية كالشجاعة والصدق والسخاء والكرم فإننا نتحدث عن نسبٍ مختلفة، وعلى الإنسان أن يسعى إلى أعلى هذه النسب ليكون مصداقاً لهذه المفاهيم لما لها من انعكاسات إيجابية على من يتصف بها وعلى المجتمع الذي يعيش فيه.
وربما يفكر بعضهم انه إذا ما اتبع وطبق هذه المفاهيم فإنّه سيجني منها كثيرا لنفسه سواء في هذه الحياة أم في الحياة الأخرى، كما جاء في قوله تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم(الاسراء: 7)، وبعض آخر يبحث أحياناً عن المصداق الأوفر لمثل هذه المفاهيم التي دعا لها الإسلام التي تصبُّ دائماً في مصلحة الفرد والمجتمع.
فإذا ما أردنا أن نتعرّف على المصاديق النموذجية لهذه المفاهيم فعليناان نقرأ ونتمعن بحديث الثقلين إذ قال النبي(صلى الله عليه واله): (إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا(حديث الثقلين: 103) فمن هم أهل البيت الذين عناهم النبي(صلى الله عليه واله) في هذا الحديث؟
معلوم لدى جميع المسلمين أنّ أهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وعلى رأسهم في المرتبة أمير المؤمنين سلام الله عليه، إذن لا يمكن لله عز وجل أن يضع خلفاء له في الأرض إلا وهم المصاديق الأوفى لهذه المفاهيم التي دعا لها في كتابه الكريم.
واليوم وإذ نعيش مناسبة عزيزة على قلوب جميع المسلمين وهي ولادة أمير المؤمنين عليه السلام فأيّ مفهومٍ من هذه المفاهيم لم يكن علي ابن أبي طالب(عليه السلام) المصداق الأوفر له، فهو الأول بعد رسول الله(صلى الله عليه واله) في الشجاعة وهو الأول في الكرم والجود والعلم والمعرفة، قد أبهر العقول بعبقريته في كل الفنون.
إذا ما أخذنا قبسا من شجاعته فيقول عليه السلام: لو تظافرت العرب على قتالي لما ولّيتهم الدبر، هذا الجانب وهذه الشواهد البسيطة تعطينا ومضة متواضعة عن شجاعة هذا الرجل الذي ملئ من رأسه حتى أخمص قدميه شجاعة لم نعهدها إلا عند إبن عمّه الرسول(صلى الله عليه واله)، وقس على ذلك المفاهيم الإنسانية الأخرى فهو الذي يُرفق باليتيم ويمسح على رؤوسهم ليسكّن آلامهم وهو الخليفة والحاكم على بلاد المسلمين، عُرف بشجاعته في الحروب ولا ينكر ذلك حتى المعادون له، فضلاً عن المحبين، وأمّا إذا جنّ عليه الليل فتجده أرقّ من الأمّ على رضيعها، يُغمى عليه وهو يتضرّع بين يدي خالقه يعترفُ بذنوبه وهو المعصوم من الزلل والخطأ وهذا ما شهد به القرآن له حيث قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب: 33)، ولكن ليعلمنا التواضع والتذلل والخشوع بين يدي الباري عز وجل.
وعندما نريد أن نتحدث عن الإنسانية بكل معانيها فهل نستطيع أن نتخطى هذه الشخصية التي مُلئت رقّة وحنانا تفتخر بها الإنسانية، ومن نماذج قوله(عليه السلام) في الإنسانية: (فانهم – يعني الناس- إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق) وقد كان مصداقاً واضحاً وجلياً لهذه المقولة في جميع مفاصل حياته الشريفة المقدسة، فتارة يأمر بإجراء راتب شهري لرجل كتابي أقعده المرض وكِبْرُ السن عن العمل، وتارة يتفقّد أعمى في خربة ليوصل إليه الطعام والشراب وهو خليفة المسلمين، وقد نقلت لنا كتب الحديث والتاريخ قصصاً عن إنسانيته لو لم يكن القرآن قد أشاد بهذا الرجل لما صدقنا هذه القصص.
إنّه يأمر ابناءَه أن يطعموا قاتله من طعامه ويسقوه مما يشرب وإذا ما شوفي من الضربة فهو الذي سيتولى أمره، وقال لهم: فإذا متُّ فضربة بضربة ولا تمثلوا بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول: المثلة حرام ولو بالكلب العقور، فأيُّ سموًّ هذا في النفس والشخصية، لاشك أن هذا السمو وهذه الشخصية التي تعالت على كل ما هو صغير لم تأتِ من فراغ وإنّما جاءت اشعاعاتها من حضن النبوة الذي تربّى فيها سنين طوال حتّى اشتدَّ عوده وقوي بنيانه، فعندما نقول ولادته عليه السلام هي ولادة للإنسانية فليس قولنا هذا فخراً له بل هو فخرٌ للإنسانية، وحقّ لجميع المفاهيم العالية أن تفتخر به لأنّه مصدرها وهي التي تدور معه حيثما دار كما قال النبي الأكرم(صلى الله عليه واله): (عليّ مع الحق والحقُّ مع علي يدور معه حيثما دار)، وحقّ لنا أن نفتخر بهكذا إمام ومن واجبنا أن نتعلّم منه كل هذه الأخلاق ونستذكر سيرته العطرة في هذه المناسبة وفي كل المناسبات وإذا ما أردنا أن نفتشَ عن الإنسانية فلا نذهب بعيداً ولا نشرّق أو نغرّب لأنّ الشرق والغرب هم الذين تعكّزوا على إنسانية هذا الرجل وعاشوا على فتات قيمه وأخلاقه، لذلك كانت ولادته ولادةً للإنسانية حقاً..

نشرت في الولاية العدد 115

مقالات ذات صله