الإمام الكاظم(عليه السلام)

السيد فاروق أبو العبرة

هو الإمام موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ولقب بالكاظم والعابد والصابر والتقي والسيد وباب الحوائج وأبي الحسن والعبد الصالح، السابع من أئمة أهل البيت المعصومين(عليهم السلام)، ولد في (7) صفر سنة (128) هـ، وبلغ عمره الشريف(55) عاماً.

تولى الإمامة بعد استشهاد أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) سنة (148)هـ وامتدت إلى(35) عاماً، عاصر هذا الإمام الكبير القدر العظيم الشأن أربعة من الحكام، إثنان منهما من أكبر جبابرة بني العباس(المنصور وهارون) وما بينهما المهدي والهادي، وكثرت في عصورهم التيارات الفكرية والعقائدية وعظمت الشبهات، وما كانت لدعوات العلويين أي منفذ، حتى ابتلى الناس في وعيهم وجهالتهم وتدنت ثقافتهم الدينية والإسلامية.
فالإمام الكاظم(عليه السلام) كان يمارس الجهاد مع أتباعه ضد المفاهيم التي وضعت ضمن تحكمات السلطة وأوصلت الواقع إلى هذا المنحدر في جو مفعم بالمحن والظروف القاسية فاستوعبت هذه الأحداث كل مدة إمامته، فاحتل مقاماً عالياً للطريقة التي كان يعامل بها من أعدائه الذين شهدوا له ولم يطيقوا صبراً إلا مدحه، فذاك هارون يقول لإبنه المأمون: (هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه وخليفته على عباده، موسى ابن جعفر(عليه السلام) إمام الحق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله(صلى الله عليه واله) مني ومن الخلق جميعاً) (عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 1/85)
إرث الإمامة:
التمهيد لإمامته كان من قبل الإمام الصادق(عليه السلام) فقد عاش في ظل أبيه عقدين من الزمن، يهيئ له دوره المستقبلي، حتى انتقلت إليه في ظروف حرجة جداً.
وعند ولادته فرح به أبوه فرحاً عظيماً وقال: (قد وهب الله لي غلاماً، وهو خير من برأ الله)، وقال:(فدونكم، فوالله هو صاحبكم)، وقال:(عليكم بهذا فهو والله صاحبكم بعدي) (بحار الأنوار:48/2)
عاصر الإمام موسى(عليه السلام) معاناة أبيه جعفر بن محمد(عليه السلام) وشاهد الاستدعاءات المتكررة له من قبل المنصور العباسي وقبل استشهاده(عليه السلام) أوصى سراً خواص الشيعة وأبلغهم بإمامة ابنه الكاظم(عليه السلام) وفق ما جرت عليه العادة من كل إمام يدل على الذي يليه، وقد علم(عليه السلام) أنه سيشمل بحوادث عظيمة ومعاناة جسيمة من قبل السلاطين، فلهذا عمل على إخفائه، ومن يتابع نصوص الإمام الصادق(عليه السلام) على إمامة ولده موسى(عليه السلام) يكتشف جانباً من أساليبه المكثفة تجاه تقرير إمامته مراعياً الظروف وتقلبات الواقع الاجتماعي التي كانت تحيط بابنه الأكبر إسماعيل المتوفي سنة 142هـ وابنه عبد الله المعروف بالأفطح، وهو ما اتضح من سبب وصيته إلى خمسة وهم (المنصور ووالي المدينة محمد بن سلمان وإبنيه عبد الله وجعفر وحميدة زوجته) فكان(عليه السلام) معلوماً لديه ويقرأ الواقع المقبل بالأخطار التي ستعترض ولده موسى(عليه السلام)، وعلى سبيل المثال عندما قال للمفضل: (لا تخبر أحداً عن خبر إمامة هذا الفتى إلا لمن تثق بهم) وقال لآخر تلميحاً لا تصريحاً، حتى أن أكثر الشيعة كانوا لا يعلمون عن الإمام موسى(عليه السلام) إلا بالعلامة والصفة.
فإمامة الكاظم(عليه السلام) لم تكن ظاهرة لعامة الناس بل محدودة عند الخواص في أول الأمر للجو المشحون رعباً، فالحبس الفكري نجده عند الرواة عندما ينقلون الأخبار لا يصرحون باسمه(عليه السلام) فيقولون:(قال العبد الصالح) و(قال السيد أو العالم) ونحو ذلك.
حركة الإمام الكاظم(عليه السلام).
اتساع التشيع وحجم الولاء والانتماء المتزايد لخط أهل البيت(عليه السلام) بسبب جهود الإمامين الباقر والصادق(عليه السلام) استثمره الإمام الكاظم(عليه السلام)، وكان مستفيداً من النهضة الفكرية التي حققها أبيه الصادق(عليه السلام)، ولكن رغم هذا الاتساع تطلب توسع في نشاط القيادة منه لرعاية شؤونهم ونشاط أكبر على الإمام أن يبذله، رغم الصعوبات والضغوطات وعيون السلطة المنتشرة بكل مكان. كان أعداؤه يشعرون به ومتفرغون له بعد استتباب أوضاع بني العباس، وهم في أحسن ظروفهم أيام المنصور، فجهدوا للتعرف إلى من ترجع الشيعة بعد تصفية الإمام الصادق(عليه السلام)، فكانوا يجدون صعوبة للوصول إلى موسى(عليه السلام) للتقية التي كان يحذّر بها أتباعه، فعاش الإمام (عليه السلام) متخفياً ولم يكن معلوماً أين يستتر، حتى أن جهاز الحكم كان يتحرى عنه بين أفراد كان يستدعيهم ويحقق معهم.
وروي أنه تخفى في بعض القرى في الشام والجواسيس في أثره تلاحقه من قرية إلى قرية، إلى أن اختفى في غار وجد فيه نصرانياً فأسلم على يديه بعد التحدث معه.
هذه حياة هذا الإمام المعذب، لا ذنب له سوى تكوين أمة إسلامية تطبق دقائق الشريعة وكيان سياسي إسلامي قائده خليفة شرعي، ومن الأمور التي شكلت تحدياً عطائه العلمي والفكري ومناظراته ومدرسته التي كان يركز فيها على ضرورة الانتماء لمنهج أهل البيت(عليه السلام)، فحياته(عليه السلام) كانت مليئة بالأحداث، وهي عبارة عن جهاد مرير ومستمر حتى وصل فيها الكفاح إلى أوجّه بحيث أن الذاكر لفضيلة لأهل البيت(عليه السلام) يكون عرضة للانتقام، فدخله الأذى حتى من إبن عمه الذي وشاه عند هارون وقال له : (خليفتان يجبى إليهما الخراج) وهذه الجملة جعلت هارون يستشيط غضبا.
والحقائق التاريخية كشفت عن الارتباك في سياسة هذا الحاكم كبقية الحكام الذين عاصرهم الإمام(عليه السلام) فكل واحد منهم كان يأخذ نصيباً في معاداته للإمام (ع) وكلها كانت قائمة على الخنق والتضييق والإبادة للعلويين والشيعة، وتلك الظروف لم تثنِ الإمام(عليه السلام) أو تجعله يتراجع عن مشروعه التوعوي في تبليغ المبادئ والعقيدة الصحيحة، فبقي صامداً ثابتاً لم تحركه العواصف ولم يستسلم، وأوضح مواقفه الجريئة وإن كلفته حياته، وهذا التحرك كان مدروساً من قبله(عليه السلام) لئلا يتسرب فهم خاطئ للناس، ويكون بسكوته تقريراً منه عن الوضع الحاكم، وللتقية سلك طريق الوكلاء المنتشرين الذين أسسهم أبيه ليتصل من خلالهم مع أتباعه بسرية تامة، وموقفه مع علي بن يقطين الوزير عند هارون من هذا القبيل، كان الإمام يثمّن اندساسه في مواقع السلطة ويمنعه من الاعتزال ويشترط عليه قضاء حوائج إخوانه الشيعة وكذلك صفوان الجمال عندما أمره الإمام(عليه السلام) بقطع علاقته مع جهاز الخليفة ونحو ذلك، وبهذه الطرق كانت تمثل له دقة المنهج التربوي مع شيعته.
استشهاد الإمام الكاظم(عليه السلام).
في تلك الفترة أصاب القيم الإسلامية اهتزاز كبير وتعرضت الناس إلى هبوط معنوي إزاء ما يقوم به جهاز الحكم من جرائم وحشية بحقهم وبحق العلويين والشيعة يزجونهم في السجون ويهدمون عليهم دورهم ويضعونهم في اسطوانات ويبنوا عليهم الجدران أحياء، فكان الخوف الشديد مخيماً وفقدان الأمن من معالم تلك الأيام .
ومن أجل أن يحدّ الإمام الكاظم(عليه السلام) من هذا الانهيار كان يتخذ مواقف صلبة برفض الظلم، وكان يصعّد المستوى في المواجهة مع أعوان السلطة، وجعلهم يدركون أن لا بقاء لملكهم ما دام الإمام الكاظم(عليه السلام) موجوداً بثقله الشعبي وذياع صيته وعلمه وكثرة أتباعه، وبخاصة في السنوات الأخيرة في عصر هارون وقد حلف هارون بقتله وقتل شيعته (الأغاني:5/225).
فكانت من أعقد مراحل حياته وحياة أتباعه وأشدها صعوبة، ففي تلك الأيام كان يحصي عليهم النظام أنفاسهم.
أرباب التواريخ يذكرون أن بعض الحوادث هي التي أججت الموقف أكثر بين هارون والإمام موسى(عليه السلام) فقد أذهب الإمام(عليه السلام) هيبة هارون عدة مرات، كحادثة زيارة هارون قبر الرسول(صلى الله عليه واله) في المدينة عندما قال:(السلام عليك يا رسول الله يا ابن العم)، والإمام الكاظم(عليه السلام) عندما زار جده بمسمع من هارون قال:( السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبهّ) فتغير وجه هارون وتبين الغضب عليه (كامل الزيارات:18/ب3).
وحادثة أخرى في مجلسه عندما أراد هارون من الإمام(عليه السلام) أن يحدد له مساحة فدك كي يرجعها إليه، فأفهمه الإمام(عليه السلام) بطريقة أنه غير قادر على إرجاعها، فلا يتصور أن النزاع معه حول بستان أو أشجار عدة فهذه سذاجة وإنما القضية هي قضية خلافة الأمة الإسلامية التي غُصبت وعليهم إعادتها، فمصادرة فدك في حينه حرمانٌ كاملٌ للحقوق الشرعية والمجتمع الإسلامي والبلاد الإسلامية من أهل البيت(عليه السلام)، وذكرَّ له الإمام أن حدودها جميع أراضي المسلمين من عدن إلى سمرقند ومن أفريقيا إلى الخزر وأرمينيا، وعندها انتفخت أوداج هارون وقال:(لن يبقى لنا شيء) فقال(عليه السلام):(قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردها) (بحار الأنوار:29/201).
وشعر كل من حضر من الحواشي أن وجود الإمام موسى(عليه السلام) أصبح خطراً على دولتهم، وكانت الحواشي تفتح للإمام الطريق إذا ما أراد المرور بينهم، فقال هارون ويل لحماقة بني العباس يجلون شخصاً يريد زوال ملكهم.
وكم حاول هارون مع الإمام(عليه السلام) بالترغيب والترهيب، ولكنه(عليه السلام) بشجاعته تحداه من دون محاباة أو مجاملة، وبقي بتلك الصلابة المستمدة من عمق إيمانه بالله وتوكله عليه، وهذا الصمود المتكرر من الأئمة(عليه السلام) رغم كثرة أعداد المأجورين في كل عصر هو الذي حفظ لنا الشريعة، والأجيال أدركت شيئاً مما تركوه من الإسلام والقرآن والسنة، ولم يستطع هارون الصبر عازماً على قتله ولم يتقبل أي وساطة بشأنه من مقربي بلاطه وهو يقول:(هيهات لا بد من ذلك)، فحمل(عليه السلام) من المدينة إلى البصرة، وأودع في سجن عيسى ومن ثم نقلوه إلى سجن الفضل في بغداد وبعدها إلى طامورة سجن السندي بن شاهك التي فيها انتهت حياته وقضى نحبه مسموماً، وروي أن الإمام(عليه السلام) في ذلك الحال شكر الله كثيراً وقال: (اللهم أني كنت أسالك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد)، فكانت مرارة الشيعة شديدة.
أراد جهاز الحكم أن يتظاهر بالحسنى فأحضروا من الوجهاء لرؤية إمامهم قبل قتله أن وضع حياته جيدة، بينما أعلمهم الإمام أنهم سيقتلونه، وفعلاً دس إليه السم بحبات تمر والأغلال والقيود في عنقه وقدميه، واستشهد(عليه السلام) غريباً مظلوماً ودفن في مقابر قريش في بغداد.

نشرت في الولاية العدد 115

مقالات ذات صله