كتاب و تحقيق

هاشم الباججي

عالم التحقيق عالم جميل وممتع ، حيث يسبر اغوار التاريخ بالبحث والتقصي والوقوف على مصدر الجمل والاحداث ، وفي هذا الباب نتعرف على المؤلف والكتاب والمحقق وعمله التحقيقي ، لنقف على دقائق الامور في هذا العمل التحقيقي، ونبدأ بالمؤلف وهو:
الشيخ علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي، المعروف بـ(المحقّق الثاني)، و(المحقّق الكركي)، ولد سنة 870هـ في مدينة كرك،وتوفي في مدينة النجف الاشرف ودفن فيها 18 ذي – سنة940هـ ، وعلى الرغم من تواجد الكركي في أماكن عدّة من العالم الإسلامي، ابتداءً من بلدته ومسقط رأسه كرك نوح، ومروراً بعواصم البلدان الإسلاميّة آنذاك مصر ودمشق وبيت المقدّس ومكّة المكرّمة، وانتهاءً بإيران والعراق، إلاّ أنّ أكثر عطائه العلمي ـ الذي منه تأليفاته ـ كان في العراق في مدينة النجف الأشرف كما يصفها المحقق في مقدمته.
المحقق سماحة الشيخ د. محمد الحسون يتحدث عن سبب تحقيق هذا الكتاب قائلا (تعود علاقتي بتراث هذا الرجل العظيم إلى سنة 1407هـ حينما كلّفتني مؤسسة آل البيت (عليه السلام) في مدينة قم المقدّسة بمسؤوليّة تحقيق كتاب «جامع المقاصد»، يساعدني في ذلك ثلّة من الإخوة الفضلاء المحقّقين، وقد خرج هذا الكتاب بحمد الله تعالى في ثلاثة عشر مجلّداً، نال استحسان العلماء وأصحاب الفنّ الفضلاء، وحصلَ على جائزة تقديريّة من وزارة الإرشاد في ايران باعتباره أفضل كتاب محقّق مطبوع في سنة 1408هـ ،وخلال السنوات الخمس التي قضيتُها في تحقيق هذا الكتاب الفقهي العظيم ـ حيث انتهينا منه سنة 1411هـ ـ كنتُ اُتابع مؤلّفات المحقّق الكركي، سواء المطبوع منها أم المخطوط، للوقوف على آرائه الفقهيّة التي كانت تساعدنا في حلّ الكثير من العبارات الغامضة في «جامع المقاصد»، فوجدتُ اختلاف المصادر المتوفّرة لدينا في عدد مؤلّفات المحقّق الكركي اختلافاً كبيراً، كاد يكون في بعض الأوقات باعثاً على التعجّب، فبعضها لم يذكر سوى المؤلّفات المشهورة له كـ «جامع المقاصد»، والرسالة «الخراجيّة» و»الرضاعيّة» و»الجعفريّة»، وبعضها الآخر أضاف لها قسماً آخر من المؤلّفات الثابتة له، بينما أفرطت بعض المصادر فنسبت للكركي مؤلّفات ليست له قطعاً).
وقد ذكر المحقق سماحة الشيخ محمد الحسون أسباب عدّة أدّت إلى عدم ضبط مؤلّفات الكركي:
منها: أنّ الكركي لم يذكر مؤلّفاته كافّة في إجازاته، لاسيما الصادرة في أواخر عمره في الفترة الزمنيّة المنحصرة ما بين سنة 936هـ و940هـ، التي لم يؤلّف فيها أي كتاب.
ومنها: ضياع بعض مؤلّفاته بعد وفاته إثر الظروف القاسية التي مرّ بها العراق بعامة ومدينة النجف الأشرف بخاصة.
ومنها: حصول التباس بينه وبين بعض العلماء الآخرين، بشكل خاص الشيخ علي بن عبد العالي الميسيّ (ت 938هـ)، إذ نُسبت بعض مؤلّفات وإجازات الميسي له.
لذا عمل الشيخ الحسون ومحاولا جهد الإمكان لضبط مؤلّفات الكركي والتعرّف على خصوصيّات كلّ ما يتعلّق بها، وقسّمها إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: الكتب التي ثبت لديه أنّها للمحقّق الكركي، وهي اثنان وثمانون مؤلّفاً.
الثاني: الكتب التي نشكّ في نسبتها له، وهي عشرة مؤلّفات.
الثالث: الكتب التي نقطع بأنّها ليست له، وهي أحد عشر مؤلّفاً.
ويقول سماحة الشيخ الدكتور محمد الحسون : مصنّفات الكركي ـ التي جاوزت الثمانين مؤلّفاً ـ لا زالت مخطوطة، ولم يطبع منها سوى رسائل صغيرة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، لذا عزمتُ بعون الله تعالى وقوّته، على إحياء آثار هذا الفقيه الكبير، فقمتُ بتحقيق مجموعة من رسائله، طبعتْ المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة مجموعتين منها سنة 1409هـ ، وطَبَعَتْ مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في قم المقدّسة مجموعة واحدة منها سنة 1412هـ.
إلاّ أنّ نفس الشيخ الحسون الطموحة، التي تَعرَّفَتْ من خلال تحقيق هذه الرسائل، على أفكار الكركي ونظرياته الجديدة في مختلف العلوم الإسلاميّة، لم تقتنع بهذا الحدّ المتواضع من العمل، لاسيما وقد شاهَدَتْ أنّ الكثير من نظريات الكركي الكلاميّة والاُصوليّة والرجاليّة وفوائده التأريخيّة وشواهده الشعريّة مبعثرة في طيّات مؤلّفاته الكبيرة والصغيرة، ويُضاف إلى ذلك كلّه أنّ أكثر رسائله وحواشيه لم تُطبع بعد، ومن ذلك الحين عزم الشيخ الحسون التوكّل على الله القدير و إحياء تراث هذا العالم الألمعي.
يقول المحقق : استغرق وضع هذه الموسوعة ـ التي تقع في 6500 صفحة، موزعة على اثني عشر مجلّداً ـ عشر سنوات، ابتداءً من جمع المخطوطات التي تجاوز عددها مئة وعشرين نسخة، تمّ تحقيقها وتنقيحها، مروراً بكتابة ترجمة مفصّلة لحياة هذا العالم الكبير، وانتهاءً بطباعتها وعمل فهارس كاملة لها.
وقد قسّم المحقق حياة هذا العلم الجليل في هذه الموسوعة إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: كتابة ترجمة كاملة لحياته المباركة وعلى مختلف الأصعدة: الشخصيّة، والاجتماعية، والسياسيّة، والعلميّة، وقد استفاد المحقق كثيراً من تحقيق مؤلّفاته والوقوف على إجازاته في ضبط سنوات حياته، إذ قسّمها إلى مراحل عدّة، وبيّن نشاطاته السياسيّة والعمليّة والاجتماعيّة في كلّ مرحلة منها.
الثاني: استخراج آرائه ونظرياته المودعة في مؤلّفاته التي لم يُفرد لها تصنيف مستقل، حيث أجرى عمليّة استقصاء كاملة لمؤلّفاته كافّة واستخرج منها هذه الآراء والنظريات، وهي: آراؤه الكلاميّة، والاُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التاريخية، وملاحظاته عن بعض الكتب، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها، وقد احتلّ هذا القسم المجلّد الثالث من هذه الموسوعة.
الثالث: تحقيق كلّ ما وصل إلى المحقق من مؤلّفاته ـ عدا جامع المقاصد ـ سواء الصغيرة منها المتمثّلة بالرسائل والأجوبة على الأسئلة والاستفتاءات الواردة عليه من مختلف البلدان الإسلامية، أم الكبيرة المتمثّلة بشروحه وحواشيه على اُمّهات الكتب الفقهيّة المعتمدة عند علمائنا، كشرائع الإسلام والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة للشهيد الأوّل.
وقد استطاع المحقق بفضل الله تعالى من تحقيق أربعة وخمسين مؤلَّفاً، معتمداً على مئة وعشرين نسخة خطيّة، جمعها من سبع محافظات في إيران كما يقول في المقدمة هي: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد احتلّ هذا القسم ثمانية أجزاء من هذه الموسوعة، ابتداءً من الجزء الرابع وانتهاءً بالجزء الحادي عشر ،أمّا الجزء الثاني عشر فقد خصّصناه للفهارس العامّة.
وفي نهاية عمله التحقيقي يصف الشيخ المحقق الدكتور محمد الحسون عمله بالاتي : (قد بذلتُ فيه الطاقة، واستفرَغْتُ الجهد، وقطعت كثيراً من الأشغال لأجله، لم أبخل عليه بضياء عين ثمين، ولا وقت عزيز، ولا تدقيق أو تمحيص، فليعذر القارئ العالمُ من خطأ مُتَأَتٍّ عن ذهول، أو سبق قلم، أو انزلاق أجهده طول النظر في صور المخطوطات، وليُقدّم النصح; فإنّ العقل للنصح مفتوح، والصدر رحبٌ إن شاء الله تعالى).

نشرت في الولاية العدد 115

مقالات ذات صله