سيدي احمد بن محمدو / موريتانيا
إن الله تعالى: جل شأنه وعظم قدره وتعالى: اسمه وتنزهت صفاته وصفه الكمال بكل ما يعني من معنى وصفه القدرة بكل تفاصيل معانيها وصفه الإرادة والعلم والحياة لا تدركه الأبصار ولا تحيط بعلمه المحسوسات ولا يعلم كنهه المخلوق ولا تشابهه المخلوقات فهو كما هو لا إله إلا هو {ليس كمثله شيء} عال بذاته وأسمائه وصفاته عن كل ما سواه علو مقام لا علو مكان وهو تعالى: كما وصف نفسه حيث قال {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام الآية 103]
إن هاتين الآيتين تهدفان إلى التعريف بتوحيد الله تعالى: والتنويه بربوبيته وخالقيته لكل شيء يقول تعالى: ذلكم الله ربكم وربوبية الله تعالى: تعني ملكيته وخالقيته لكل شيء وأنه المدبر لأمره ويقول تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي إنما انحصرت الألوهية فيه لأنه خالق كل شيء ومدبر أمره ولا خالق سواه يشاركه في الألوهية، وقد أردفت الآية الكريمة كلمة التوحيد أي لا إله إلا هو بدليل التوحيد أي أنه تعالى: خالق كل شيء، ومن هذه الآية نتبين منزلة دلائل التوحيد في القرآن الكريم ومكانتها وأنها تلي كلمة التوحيد لأنها لا تتم معارف التوحيد إلا بها ولأنها السبيل الوحيد للوصول إلى معرفته تعالى: بأسمائه وصفاته.
أما الآية الثانية فهي تخبرنا أنه تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وهذا هو محور بحثنا في هذا الموضوع فهو تعالى: لا تدركه الأبصار بنص محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عظم شأنه أن يرى بذاته ـ فلا العين تراه ولا الحواس تغشاه ـ وتعالى: قدره على أن لا يُرى بصفاته، فبصفاته تجلى للمؤمنين من خلقه في خلقه فنظروا إلى المخلوقات على اعتبار أنّها دلائل توحيده وشواهد وجوده ونظروا إلى الكون كلّه على أنه مجلى تجلي الأسماء والصفات وأنه المرآة التي تعكس لهم ما عليه الذات العلية من معاني الكمالات والشاهد الحسّي على ما تتحلّى به من آيات الجمال وعظيم الصفات، وأما الرؤية الذاتية لله تعالى: رأي العين فقد استحالت وانتفت بدليل الآية الكريمة وقد تعذّرت كذلك بالعقل والنقل وامتنعت بالمنطق والبرهان فلا حاسة تدركه ولا محسوس يباشره وقد أكد القرآن الكريم ذلك حتى على مستوى الأنبياء فلا الأنبياء تراه ولا المرسلون ولا الملائكة المقربون ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}[ الشورى 51 ]
ويخبرنا القرآن الكريم عن موسى عليه السلام أنه صعق لما طلب من الله تعالى: الرؤية أو قدم إلى الله تعالى: ـ حسب بعض التفاسير ـ طلب قومه قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف الآية 143]
لمّا عبر القرآن الكريم عن ان التي تعني النفي الأبدي دائما وأبدا فإنما يعني ذلك المنعَ الدائمَ في الدنيا والآخرة وقوله تعالى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} فإن اشتراط استقرار الجبل في هذه الآية يشبه اشتراط ولوج الجمل في سم الخياط في قوله تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} والقرآن الكريم يعبر هنا عن استحالة دخولهم للجنة دائما وأبدا لأنه اشترط لذلك ما هو مستحيل ولن يتحقق
وكذلك فإن استقر مكانه تعبر عن استحالة رؤيته تعالى دائما وأبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة وذلك لاشتراط ما لم يكن وما لن يكون أبدا قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وإن وعد الله حق ولن يخلف الله وعده فإنه عليه السلام لن يرى الله تعالى: كما صرحت الآية الكريمة في مقدمتها بقوله تعالى: {لن تراني} وكما اشترطت في الشطر الأخير منها في قوله تعالى: {فإن استقر مكانه فسوف تراني} وذلك ما لم يكن ولن يكون، وأما ما وصل إليه أمر موسى عليه السلام من الصعق أولا ثم التوبة إلى الله تعالى وإشهار الإيمان بأنه أول المؤمنين فهو دليل على أنه فعل ما يستوجب كل ذلك ولم يكن ذلك إلا لمجرّد أنه طلب من الله تعالى رؤيته.
حينما لم تجز رؤية الله تعالى لكليمه موسى عليه السلام فلا تجوز لغيره أبدا ولا مطمع في حصولها لسواه وهذا ما يفيد المنع المطلق في كل زمان ومكان فيستحيل على الله تعالى أن تراه العين لا في الدنيا ولا في الآخرة وحاشا لله أن تدخل ذاته العلية وصفاته القدسية في عالم المادة أو يتساوى مع المحسوسات في حلول ظرف الزمان أو المكان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فتلك طبيعة المخلوقات وخصوصية المادة والمحسوسات وهو تعالى {ليس كمثله شيء} فامتناع رؤية الله تعالى في هذه الدنيا هو بسبب أنه تعالى ليس كمثله شيء ولا يشبه المادة ولا الأشياء المحسوسة وهذا السبب قائم في دار الآخرة كذلك لأن الله لن يتبدل يومذاك إلى مادة ولا إلى محسوس تعالى الله عن ذلك علو كبيرا.
من هنا يتضح لنا امتناع رؤية الله واستحالة مشاهدته بالعين الباصرة وتعذّر إدراكه بأي محسوس مادي مهما كان، فهيهات للكوب أن يسع البحار والأقطار أو أن يحوي المحدود المقيد ـ الذي لا وجود لذاته من ذاته والمحدَث بكل كيانه وصفاته ـ من هو مطلق في وجوده وكل أفعاله وصفاته ومن هو علّة كل موجود وهو فوق الحد والحدود، من كان وجوده قبل كل موجود وهو الآن على ما عليه كان دون أي قيود.
فهذه قواعد معرفته سبحانه، وعقيدة أهل الله في الله، اعتقدتها عقولهم ورسمتها أقلامهم ولهجت بها ألسنتهم، وفي دعاء أحد العارفين: (يا جامع الكمالات يا من أحاط بأفراد الملك والملكوت والغيب والمشاهدات يا كامل الصفات يا منزها عن الاختلافات أنت الواحد الأحد الفرد الصد المنزه عن الصاحبة والولد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد، أنى تساويه الأغيار وهوم مبديها أو تلحقه الآثار وهو منشيها أو تشبهه الحوادث وهو مفنيها يأبى ذلك جلاله ويدفعه كماله فهو كما هو لا إله إلا هو).
وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام حين سئل ما التوحيد وما العدل فقال: ( التوحيد هو أن لا تتوهمه والعدل هو أن لا تتهمه)، وهذه قاعدة عظيمة من أمير المؤمنين وهي من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه عليه فبمفردة واحدة عرَّفنا على موضوع التوحيد بكل تفاصيله لأنّ الذي يشير إلى الله عزوجل بالجهة أو الجسم فقد توهمه وشبهه وهو مجرّد وهم من صنع الخيال البشري العاجز، وهذه القاعدة عند أمير المؤمنين عليه السلام تدين جمهور المسلمين اليوم لأنّه باتت ترجح به كفة السلفية الذين ينتهجون منهج ابن تيمية ويكررون كلماته التي تثبت الجسمية لله سبحانه إلا أنهم لكل عضو نسبوه إلى الله يقولون بلا كيف (يد بلا كيف ووجه بلا كيف) وقد كان الزمخشري رحمة الله عليه سباقا في كشف زيف هذا المعتقد وتوضيح غلطه وسخفه حيث يقول:
وقد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة
وقد سُئِل الإمام الصادق عليه السلام في هذا الموضوع من طرف أحد أصحابه فقال له: (يا معاوية بن وهب ما أقبح أن يعيش المرء سبعين أو ثمانين سنة في ملك الله ويتنعم بنعمه ثم لا يعرفه حق المعرفة يا معاوية إن سول الله صلى الله عليه وآله لم يرَ الله رأي العين أبداً إن المشاهدة نوعان المشاهدة القلبية والمشاهدة البصرية فمن قال بالمشاهدة القلبية فقد صدق ومن قال بالمشاهدة البصرية فقد كذب وكفر بالله وبآياته فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من شبه الله بالبشر فقد كفر)، هذا الحديث من كتاب الأمثل.
نشرت في الولاية العدد 116