إضاءات تربوية ونفسية في العفة

أ. د. نـجم عبدالله الموسوي/ كلية التربية – جامعة ميسان

العفة لغةً: مصدر عفَّ يقال: عَفَّ عن الحرام يعِفُّ عِفَّةً وعَفًّا وعَفَافَةً أي: كفَّ، فهو عَفٌّ وعَفِيفٌ والمرأة عَفَّةٌ وعَفِيفَةٌ وأعَفَّهُ الله، واسْتَعَفَّ عن المسألة أي: عفَّ، وتَعَفَّفَ: تكلف العِفَّةَ، والعِفة الكَفُّ عما لا يَحِلُّ ويَجْمُل، والاسْتِعْفاف طلَبُ (1).
أما في الاصطلاح فهي : حالة نفسية تربوية أخلاقية إرادية رفيعة ضابطة للقوى الشهوية (شهوة الفرج والبطن) الموجودة لدى الإنسان، إذ تكون رادعة له عن اقتراب المحرمات التي نهى الشرع عنها وتعفه عن المآثم والموبقات. ويقابل كلمة العفة في اللغة الانكليزية (chastity virtue).
وفي ميدان علم النفس تكون العفة حالة وقائية تحفظ للفرد كيانه وتسمح له بإشباع حاجاته بما يضمن ويحقق له الصحة النفسية والاستقرار العاطفي بعيدا عن مشاعر الخوف والقلق والاضطراب والشعور بالذنب.
وقد يتبادر الى ذهن بعضهم أمران مهمان أولهما: أن العفة تشير إلى عفة الإنسان في الناحية الجنسية فقط، لكن واقع الأمر أن العفة مصطلح واسع يدخل في ميادين كثيرة، إطارها العام المحرمات التي أوقفنا الله سبحانه وتعالى عند حدها، لكن الناحية الجنسية أخذت حيزا كبيرا في توجيهات السماء نحو العفة.
وثانيهما: أن مسألة العفة تختص بالنساء من دون الرجال وذلك لاعتبارات عرفية وليست دينية والصحيح أن كلا الجنسين يجب أن ينضويا تحت هذه الصفة التي أثنى الله عليها ورسوله الكريم محمد (صلى الله عليه واله) وأن يتنزها عن الرّذيلة والمنكر والفحشاء وان الرجال والنساء كلاهما مأموران بالالتزام بالطهارة فلا تقتصر في معناها على جنس الذكور من دون النساء.
قال تعالى: ((وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)) (2)، وقال رسول الله (صلى الله عليه واله) : ((أحبّ العفاف إلى الله تعالى عفاف البطن والفرج)) (3).
ويروى عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيراً أعفّ بطنه وفرجه)(4).
وكذلك عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: (ما عُبِدَ الله بشئ أفضل من عفة بطن وفرج ((5).
وقد بين الله سبحانه وتعالى حدود العفة عند الرجل أن تكون ضمن دائرة غض البصر وحفظ الفرج قال تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(((6).
أما ما يخص المرأة أن تكون بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة وإظهارها والحجاب والتستر ووجوب إخفائها إلا على المحارم، قال الله تعالى: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(7).
وقد سعى الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله) إلى العمل الجاد على تربية المجتمع المسلم تربية صحيحة وخلق حالة العفة لديه حتى تكون صفة متلازمة لدى الفرد ولدى المجتمع والأحاديث كثيرة جدا ممكن أن تطلب من منابعها في كتب الحديث المباركة، هذا من ناحية دينية وشرعية وأخلاقية. ومن الناحية التربوية والنفسية فقد بدأت العديد من البحوث والدراسات التي أجريت في بلدان غير عربية وغير إسلامية تطرح مبدأ الالتزام بالعفة والحياء والابتعاد عن نشر الفواحش والرذائل والمنكر، والمناداة بارتداء ثوب الشرف، لان الكثير من المشاكل التربوية والنفسية والصحية بدأت تأخذ حيزا كبيرا في داخل المجتمعات التي ابتعدت أيما ابتعاد عن العفة وعن الفطرة الإنسانية السليمة.
وهنا كان لا بد من أن نبين النتائج التي ممكن أن تحققها صفة العفة عند الالتزام بها في السلوك الفردي والاجتماعي، والتي منها:
1. أنها تبني شخصية الفرد وذاته وتجعل منه أنسانا قوياً ذا أرادة وسيطرة على نفسه، وقادرا على أن يتحكم بنفسه وبغرائزه فلا يقترب إلا مما أحله الله له، فلا تؤثر به كل المغريات التي تعترض طريقه ولا تغلب شهوته دينه وعقله.
2. إن التزام مبدأ العفة ينعكس ايجابيا على نفسية الفرد فيكون شخصا عزيزا يسمو بذاته ونفسه، لان الرذائل مذلة للإنسان توصله إلى التسافل والدونية وذلة النفس والانحطاط والابتذال.
3. إن للعفة دورا كبيرا في ضبط سلوك الإنسان نحو الأفضل والأحسن وتنزيهه عما لا يليق به، فالسلوك هو كل ما يصدر من الإنسان من أقوال وأفعال وحركات، وتصبح هذه الأمور تحت وطأة العفة إذا كان الإنسان عفيفا، وإلا فلا يمكن السيطرة عليها.
4. تسهم العفة إسهاماً واضحا في الحد من ظاهرة الانحراف الجنسي وبنسبة كبيرة، أي أنها تؤدي إلى سلامة المجتمع، فإذا كانت السمة السائدة في المجتمع هي العفة فنلاحظ من الناحية التربوية والنفسية والاجتماعية أن تقل فيه نسب الانحرافات، فلا يجد من في نفسه مرض مبتغاه فيضطر إلى الرجوع إلى الوسائل الشرعية لإشباع غرائزه، على العكس من ذلك في المجتمعات المنحلة والتي يشيع فيها الفساد نلاحظ حتى عزوف عن الزواج وتكوين الأسرة بسبب إشباع حاجات الجنسين بطرائق غير مشروعة وان حصل الزواج فانه يكون في مرحلة متأخرة من العمر.
5. إن العفة مبدأ أخلاقي يحافظ على إنسانية الإنسان ويصون كرامته وبخاصة المرأة فهي ليست وسيلة لإشباع غرائز الآخرين وهي ليست متاحة للجميع وفي متناول أيدي الكل تهمل بمجرد أن يقضوا منها وطرهم وتهان وتستغل كرامتها، فالمرأة لم تخلق لهذه المهمة البائسة التي تصورها أبواق الفاحشة، خلقت لتؤدي مسؤوليتها في بناء الأسرة وتكوينها وتربيتها تربية صحيحة، فالمرأة ذات كيان وكرامة والحفاظ عليها جزء كبير من مسؤولية المرأة نفسها ومسؤولية المجتمع الذي تعيش فيه.
6. تعطي العفة حالة تحصين وحماية ذاتية للفرد تجاه كل ما يدور حوله من مثيرات متنوعة وريب وفتن وتقيه شر الإمراض النفسية والجسمية الفتاكة، وتنمي لديه حالة التسامي والتعالي والترفع عن الانقياد للهوى، وتقوي ملكة التحمل والصبر لديه وتنظم سلوكه ونشاطه الجنسي على وفق القيم والمبادئ السماوية.
7.إن آثار العفة تنعكس على الفرد أولاً وعلى المجتمع ثانياً، فهي الأداة التي تصونهما من انتشار الأمراض الاجتماعية والأخلاقية الخطيرة التي تفقد الإنسان هيبته والمجتمع طمأنينته ومن ثم تكون هناك أثار سلبية كثيرة ومتنوعة.
8. يرى المختصون في التربية والطب النفسي أن انخفاض نسبة العفة لدى الفرد تؤدي إلى زيادة نسبة الأمراض النفسية لديه وخصوصا التوتر النفسي والقلق والاكتئاب وهذا ما أثبتته الدراسات النفسية التي أجريت في العديد من الجامعات العالمية، ويحق لنا أن نفخر أن قرآننا الكريم ونبينا محمد (صلى الله عليه واله) وآله الطاهرين هم السباقون في الحفاظ على جسد ونفسية المسلم وسلامتهما مما يؤذيهما من المشكلات ومن آثار الفاحشة قال تعالى : ((وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))(8).
9. العفة فيها راحة القلب وهدوء النفس وقوة الإيمان وراحة الضمير ووجودها يشعر الفرد بالسعادة والرضا عن نفسه وذاته، بينما فقدان العفة يشعر الفرد بالريبة والشك وعدم الثقة وفقدان السعادة والطمأنينة وسوء الظن بالآخرين حتى على مستوى المقربين منه.
وفي الختام يجب أن نذكر أن أهم ما يدعم ركائز العفة ويقويها في المجتمع هو الزواج وللناظر الحاذق في الزواج يراه عبادة لله وعفة للفرج وبناء للأسرة والمجتمع وابتعادا عن المعاصي الموبقات وطهارة للروح والجسد وصيانة لهما مما يؤذيهما من دنس ومرض والزواج يحقق هدف السماء من وجود الإنسان على هذه الأرض في الاستمرار والتكاثر والتناسل وهذا ما صرحت به العديد من الآيات المباركة، كما لا بد من وجود التوعية الإعلامية الكافية للفرد المسلم والمجتمع المسلم بالآثار الايجابية للعفة، وإيضاح الآثار السلبية لمن حاد عن طريق العفة والحياء، واخذ منها الدروس والعبر.

الهوامش :
1. لسان العرب، م 9 ص 253.
2. سورة النور الآية : 33.
3. تنبيه الخواطر-2-30.
4. ميزان الحكمة، ج1، ص842.
5. أصول الكافي ج2 ص 79.
6. سورة النور : الآية 30.
7. سورة النور : الآية 31.
8. سورة الأنعام : الآية 151.

نشرت في الولاية العدد 117

مقالات ذات صله