الباحث جهاد هادي ابو صيبع
حوى التراث الاسلامي بين رفوف مكتبته الجليلة صحائف عن شؤون الموظفين يجدها الباحث متفرقة هنا وهناك ،هي صحائف تحوى معاني عجيبة عميقة فيها اتجاه راشد قصرت عنه النظم الحديثة في بعض وجهاتها ،ومن ثم كانت تلك الصحائف جديرة أن تستقصي وتستلهم وتسترشد ،كانت نصب أعين جماعة من المسلمين ،فاستوجب قيامها نظاما يعتمد بالضرورة على موظفين يقومون بواجباتهم ويحملون امانته ،صارت في حينها ثقافة أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في تفاصيل الحياة كلها، وليس أولى من ذلك إدارة أمور الدولة والمجتمع ،فكانت سمة تلك الثقافة الاخلاص والصدق والنزاهة والأمانة والعمل الصالح والاستثمار الأمثل للموارد فضلاً عن الخلق الحسن المعتمر بالإيمان والفضيلة.
الوظيفة في بواكير حكم الرسالة
لقد أمر الرسول الكريم اتباعه ان يؤمّروا عليهم حتى في اقل الجماعات واقصر الاجتماعات فكان قد نبه على وجوب التولية فيما هو أكثر من ذلك، وقد اضطلع هو نفسه (صلى الله عليه وآله) بكل ما يتعلق بولاة الامور في المدينة ،فولى الأماكن البعيدة والقريبة وأمر على السرايا وبعث على الأموال الزكوية السعاة(1) ،واقتضت الظروف حتى في بِدْء الاسلام ،حينما تعددت الوظائف على نحو أبعد مما قد يظن ,فعهد الرسول لم يخل من وظائف الوزارة ووظائف الكتابة بأنواعها ،ووظائف السفراء والقضاة وفارضي النفقات ورجال الأمن والتعليم والصحة والمال والحرب والغنائم والمترجمين وغيرها، ولقد وجدت وظائف هي بطبيعتها مما لا يقام بها الّا حيث التمدن ودقة الادارة كصاحب السر ورئيس التشريفات ورجال الحاشية الخاصة(2) فالوظيفة في الاسلام تكليف شاق وجهود محشودة لخير الأمة ،يقول النبي (صلى الله عليه وآله) 🙁 ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح الا لم يدخل الجنة معهم )(3). والاسلام يقتضي من يلي أمر أي رعية أن يرفق بها يقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : (إن شر الرعاء الحطمة)، يريد العنيف الذي لا يرفق برعيته بل يحطمها(4)، والمسؤول إن لم يبسط لرعيته جناح رحمته فهو من دعوة الرسول في خطر وكأننا نحس قلبه الرحيم يخفق في دعوته: (اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فأشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فأرفق به(5) ،فأما العادلون فالرسول صلوات الله عليه وآله يشير اليهم والى فضلهم ومنزلتهم بعبارة وضيئة فيها بلاغه مؤثرة فقال(صلى الله عليه وآله): (إن المقسطين عند ألله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا )(6).
الكفاءة صنو العدل
والنظم الاسلامية تتحرى في تعيين الموظفين الأمثل فالأمثل متصفاً في صراحة قاطعة العدول عن هذا خيانة كبيرة ينسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله): (من قلد رجلا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين)(7)، سنّت النظم الاسلامية للموظفين مبادئ تبصر الدنيا على هدى الدين ،ولهذا نرى عصارات الدين القوية تسري في أعمال الموظفين كبيرهم وصغيرهم فتؤتى اكرم الثمرات، أما اليوم فنجد كثيراً من المسؤولين الصغار والكبار تلطخت ايديهم بالمال الحرام ونسو التعاليم الاسلامية النبيلة ،فيا ويلهم من عقاب الله.
ومما يمثل النظم الاسلامية، وفي آداب الموظف ما عده القلقشندي من آداب الكاتب قال: (منها لزوم العفاف والصيانة فيما يتولاه للسلطان من اعمال – والتعفف عن المطامع الذميمة والمطاعم الوخيمة والترفع عن المكاسب اللئيمة) فإن ذلك يجمع القرب الى الله تعالى والحظوة عند الحاكم وجميل السيرة عند الرعية.
رقيب عتيد في شؤون الأمة
الموظفون في النظم الإسلامية يخضعون لمراقبة بالغة الحرص والتحري ،فتعقب من قبلها وتدار تصاريف توخي الدقة والأمانة فيها بشكل حذر يرعي المصلحة العامة حتى يصبح هذا الأمر ثقافة يرعاها الجميع ،الموظف والمواطن العادي، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ،الا اننا في هذا الزمن نجد ان الحاكم او الملك او المسؤول او الموظف يتحول بمرور الزمن الى فرعون بل أشد قسوة فيحول بلاد الله إلى دولة بوليسية قمعية أو اقطاعية تدر عليه مالاً حراماً، فنصبح دولا يخيم عليها الموت ولا شيء غير الموت ومن ينبس ببنت شفة لم ولن ير الجن والانس بعده ،ولم تر بلدان العالم سجونا ومعتقلات اقسى وأقبح وأقطع مما تملكه البلدان الاسلامية ،ويحولون بيت المال او خزينة الدولة الى جيوبهم مما حملوا، ويطيش صبيانهم بما اكتنزوا، في الوقت نفسه الذي يموت فيه الشعب فقرا وجوعا وذلا، وينام الناس في بيوت الصفيح والمزابل والمقابر وينام الملوك والحكام في قصور لم يرها حتى في الخيال والأحلام ،والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يقول (أين حقي ) فهو محظوظ إن رايته في القبور.
الإمام علي (عليه السلام) ودولة العدل
يقول الإمام علي عليه السلام حينما كتب الى احد عماله :(واخفض للرعية جناحك وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء في عدلك )(8) ، فالاسلام يفيض على أتباعه جميعا كريم الرعاية وعظيم الالتفات ،فيحرص الامام عليه السلام على إبلاغ ولي الأمر حاجات كل فرد ،لا يمنع من ذلك ضالة شأن الفرد او ضعته ،وقال الامام علي عليه السلام يوصي احد عماله ان يسبغ الارزاق: (فإن ذلك قوة لهم على استصلاح انفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت ايديهم وحجه عليهم إن خالفوا امرك او ثلموا أمانتك )(9) ، والإمام علي يكتب الى الاشتر النخعي حين سيره الى مصر: (ثم انظر في امور عمالك ،فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثره)(10) ،اذن الموظف يجب أن يمتلك قلباً واعياً وظميراً حيّاً يدخل في دائرة نظمنا الاسلامية الرائعة.
—————–
المصادر:
(1)صحيح مسلم بشرح النوري ج21 ص 215
(2)نفس المصدر
(3)نفس المصدر
(4)الخراج لابي يوسف
(5)العقد الفريد لابن عبد ربه ج1 ص 28
(6)تاريخ الطبري ج4 ص 47
(7) الادارة الاسلامية لمحمد كرد علي ص 178
(8)شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج3 ص 109
(9)نهج البلاغة للشريف الرضي ج2 ص45
(10)انفس المصدر
نشرت في الولاية العدد 122