أ.م. د خليل خلف بشير
من يطالع رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام) يجد الأثر القرآني بادياً وواضحاً في ألفاظها وتراكيبها ومعانيها، وهو ليس بالأمر الغريب في كلام المعصومين -عليهم السلام- إذ أن القرآن الكريم تجلى في كلامهم؛ لكونهم عِدل القرآن وترجمانه، ولأنّ الهدف واحد، وهو الهداية والتربية والدعوة الى الحق، وإذا ما تأملنا في نصوص الرسالة سنجد الأثر القرآني متمثلاً بمحورين هما:
1- الأثر اللفظي: وهو التضمين لنصوص من القرآن الكريم وتوظيفها لتأكيد المعاني التي يقصدها النص، ومن أمثلة ذلك ما جاء في حق الله الأكبر: ((فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ الْأَكْبَرُ فَإِنَّكَ تَعْبُدُهُ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً))، وهو تضمين لقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ … يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (النور/55).
وكذا في حق البصر في قوله (عليه السلام): ((وَأَمَّا حَقُّ بَصَرِكَ فَغَضُّهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ وَتَرْكُ ابْتِذَالِهِ))، وهو تضمين لقوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ- النور/30).
وفي حق اليد قال (عليه السلام): ((وَأَمَّا حَقُّ يَدِكَ فَأَنْ لَا تَبْسُطَهَا إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ … وَلَا تَقْبِضَهَا مِمَّا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهَا))، وهو تضمين واضح لقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً- الإسراء/29).
وفي حق الصدقة ينهى الإمام السجاد(عليه السلام) عن المنّة على الفقير، ويحثّ على صدقة السر في قوله ((وَأَمَّا حَقُّ الصَّدَقَةِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا ذُخْرُكَ عِنْدَ رَبِّكَ وَوَدِيعَتُكَ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى الْإِشْهَادِ فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ كُنْتَ بِمَا اسْتَوْدَعْتَهُ سِرّاً أَوْثَقَ بِمَا اسْتَوْدَعْتَهُ عَلَانِيَةً … وَلَوْ أَرَدْتَ نَفْسَكَ بِهَا لَمْ تَمْتَنَّ بِهَا عَلَى أَحَدٍ ))، وهو تضمين لقوله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ- البقرة/272)، وكذلك تضمين لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى- البقرة/264).
2- الأثر المعنوي: ونعني به ما ورد من معانٍ قرآنية صاغها الإمام السجاد (عليه السلام) بألفاظه وأسلوبه، وبالتأمل في تلك النصوص يتضح الأثر القرآني في تلك المعاني، من ذلك حق السمع في قوله ((وَأَمَّا حَقُّ السَّمْعِ فَتَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ تَجْعَلَهُ طَرِيقاً إِلَى قَلْبِكَ إِلَّا لِفُوَّهَةٍ كَرِيمَةٍ تُحْدِثُ فِي قَلْبِكَ خَيْراً …))، فهو تضمين للمعنى القرآني الذي تحدّث عن مسؤولية أعضاء الإنسان، وجعل السمع أولها في قوله تعالى (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً- الإسراء/36).
وفي حق الأم يفصّل الإمام السجاد (عليه السلام) الآلام والتضحيات التي تقدّمها الأم من أجل الولد فيقول: ((فَحَقُّ أُمِّكَ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا حَمَلَتْكَ حَيْثُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَداً وَأَطْعَمَتْكَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهَا مَا لَا يُطْعِمُ أَحَدٌ أَحَداً وَأَنَّهَا وَقَتْكَ بِسَمْعِهَا وَبَصَرِهَا وَيَدِهَا وَرِجْلِهَا وَشَعْرِهَا وَبَشَرِهَا وَجَمِيعِ جَوَارِحِهَا مُسْتَبْشِرَةً بِذَلِكَ فَرِحَةً …))، الى آخر ما جاء في هذا الحق من تفصيل وتأكيد، وهو أثر معنوي للقرآن ففيه آيات متعددة ذكرتْ حقوق الوالدين، وخصّتْ حق الأم كما في قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً- العنكبوت/8)، وقوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ-لقمان/14)، وقوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهَاً-الأحقاف/15).
وبذا يتضح الأثر القرآني في رسالة الحقوق؛ لكون الإمام السجاد (عليه السلام) إماماً معصوماً ينتمي إلى أسرة قرآنية زُقّت العلم زقاً، فقد قرأ القرآن ووعاه وفسّره فتجلّت ألفاظه ومعانيه في آثاره المعروفة، ومنها الصحيفة السجادية، ورسالة الحقوق، وهذا يدلّ على أنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) – ومنهم الإمام السجاد- ترجمان القرآن وقرآن ناطق فحياة الأئمة (عليهم السلام) وسلوكهم تجسّد للقرآن الكريم في حقيقته، فهم القرآن الناطق وهم عدل القرآن.
نشرت في الولاية العدد 123