القصيدة الشعبية الحسينية بين تداعيات الأمس وهموم اليوم

محمد الخالدي

ارتبطت القصيدة الحسينية منذ قرون متعددة ارتباطاً عقائدياً بثورة الطف الكبرى التي أستشهد فيها الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) وأصحابه الأوفياء في عام (61هـ), وبعد أن تبلورت رؤية الشعراء في مفاهيمها الإنسانية الكبيرة, أخذت هذه الرؤية بالتطوّر التدريجي مع مرور الأيام والسنين حتى وصلت إلى درجة النضج الكامل في الوقت الحاضر.

ومن المؤكد أنّ ولادة هذه القصيدة قد جاءت كرد فعل حضاري وإنساني على الطغيان والظلم والاستبداد الذي عانت منه النفس البشرية التواقة للحرية والخلاص والتحرر عبر قرون طويلة من الزمن,والتي وجدت في شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) خير من يمثلها ويمثل نضالها وجهادها ضد قوى الشر والهمجية والضلال عبر العصور والأزمان كلها.
لذا لا غرابة أنّ نجد الحسين(عليه السلام) قد توهج في ضمير الشعراء، وكان الملهم الأول لهم في ما كتبوا من شعر المقاومة والتحدي والثورة، والذي تزخر به دواوينهم الشعرية قديما وحديثا,ولو أردنا أن نحصي ما قيل في الحسين (عليه السلام) منذ استشهاده إلى الآن لملأنا آلافاً من الكتب والمجلدات والمؤلفات الضخمة.
فثورة الحسين (عليه السلام) كانت وما زالت هي نبض الشعر والحياة والأمل، فضلاً عن شمولية منهجها الإنساني والعقائدي والثوري الذي مازال يستوحي منه كل ثوار العالم الدروس والعظات والعبر, إنّها بحق ثورة الإنسان الحقيقي الذي يأبى الظلم والهوان والاستعباد.
فإذا كانت هذه الثورة ورجالاتها بهذا المقام الشريف وهذه المنزلة السامية والرفيعة ,فكيف يمكن أن يتعاطى الشعر معها ومع كل ما قدمته من رؤى حضارية شاملة, استطاعت أن تؤسس لبناء إنسان متحرر من قيود العبودية المقيتة والاستذلال المهين.
من هنا أرى أنّ الشاعر الذي يريد أن يكتب شعراً عن شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) يجب أن تتجلى فيه كل معايير الصدق والخشوع والرهبة, فضلاً عن عمق العاطفة وتجذّر الرؤية ,بعيداً عن الزيف والتدليس والبهتان والكذب.
لقد كان الشعراء المسلمون في طليعة شعراء النهضة الحسينية وما زالوا كذلك، لإيمانهم المطلق بعدالتها وسمو منهجها وارتباطها الصميمي بالله عز وجل وبالدين الإسلامي الحنيف ورسالته السماوية السامية.
وشعراء الحسين (عليه السلام) هم النخبة المنتخبة والمثقفة التي تصدرت عبر الأزمان قائمة التحدي والجهاد ,وكانت دماؤهم مشاعل مضيئة على طريق الحرية والكفاح والكرامة ,واستطاعوا بوساطة تضحياتهم الجسام أن يحولوا الكلمة إلى براكين من الغضب المقدّس,وتحملوا نتيجة ذلك شتى أنواع الاضطهاد والإرهاب الفكري والتصفيات الجسدية من قبل أعداء ومبغضي آل البيت النبوي الشريف.
واليوم إذ نتناول دراسة الشعر الشعبي الحسيني بوصفه أداة من أدوات الوعي الفكري والثقافي في المجتمع ,فإننا لا ننسى دور الشعر العربي وما قدم من روائع حسينية خالدة, كان حقا على الأدب العربي أن يفخر ويتباهى بها عبر كل العصور السالفة واللاحقة.
أما عن بداية الشعر الشعبي الحسيني فالمرجح أنه بدأ بعد النصف الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي, ونعتقد أنّ الشاعر محمّد بن نصار (صاحب النصاريات الكبرى) هو أول شاعر شعبي عراقي كتب القصيدة الرثائية في حق الإمام الحسين (عليه السلام) وأبنائه وأصحابه، الذين استشهدوا معه في واقعة الطف المجيدة,ثم جاء من بعده الحاج زاير الدويج النجفي وآخرون .
واستمرت القصيدة الحسينية على ما هي عليه, في القرن التاسع عشر الميلادي وهي تسير بخطى واعية على الرغم من قيود القوالب النظمية القديمة التي توارثها الشعراء من الجيل الأول, وهكذا تواصلت حتى منتصف القرن العشرين الميلادي ,إذ لم تخلُ هذه المرحلة من التجديد في مضامين وأفكار القصيدة الحسينية,فضلا ً عن التفنن في طرق بنائها وتراكيبها بما يتلاءم مع وعي الناس وثقافتهم للقضية الحسينية التي باتت هما للمبدعين, ولاسيما شعراء المنبر الذين حاولوا المزج بين قضية الحسين (عليه السلام) والهم السياسي المعاصر، وهكذا ظهرت القصيدة الثورية المقاتلة التي بلغت عصرها الذهبي في سبعينات القرن المنصرم ويقف في مقدمة الشعراء المجددين فيها,الشاعر الراحل عبد الحسين أبو شبع, والشاعر الراحل هادي القصّاب العبايجي وآخرون..
وعلى الرغم من المضايقات التي كان يتعرّض لها شعراء المنبر الحسيني من قبل أزلام السلطة آنذاك ,إلاّ أن صوت المنبر بقيَ مدوّيا في البيوتات النجفية وفي سراديبها وكذلك في المدن العراقية الأخرى, ولم تستطع قوة السلطة بكل ما تمتلكه من أجهزة قمعية أن تسكت هذا الصوت الثائر الذي كان يصدح بحب الحسين ويبعث مظلوميته من جديد..
ومع رحيل عمالقة شعراء المنبر الحسيني باتت الساحة الحسينية تتقاذف بها الرياح ,وهي تضج بالمتناقضات والمفارقات إذ بانت عليها علامات التراجع و الانتكاسة من غير أن تجد من ينتشلها من واقعها المزري والمتدهور,مما عجل بظهور جيل من الشعراء غير المؤهلين لحمل الهوية الحسينية, وهكذا شاعت القصائد الرديئة التي أساءت بأفكارها ورؤيتها للقضية الحسينية بما تنطوي عليه من التسطيح الفكري الذي يعد من أخطر الظواهر السلبية التي يتبناها الشاعر الشعبي في الوقت الحاضر.
أما أهم الأعراض المرضية للقصيدة الحسينية المعاصرة فتتمثل بالتقليد الأعمى والعشوائية والسطحية, وعدم النضج الفنّي,فضلا ً عن غياب الوعي والثقافة الإسلامية الحقيقية .
فإلى متى تبقى القصيدة الشعبية الحسينية تراوح في مكانها بين تداعيات الأمس وهموم اليوم ؟؟

نشرت في الولاية العدد 123

مقالات ذات صله