في البدء لابد من الإشارة إلى مكارم الأخلاق واهتمام الإسلام بها اهتماماً بالغاً، وذم مساوئها. وكيف بلّغ هذا الدين عن الرحمة واللين والعفو، والودّ والحلم والعطف والسماحة والرضا والبر والكرم، وهكذا كان قلب رسول الله (صلى الله عليه واله)، ما غضب إلا لله ولا ضاق صدره ولا احتجز لنفسه، لهذا شهد له تعالى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)(1)، وقال هو (صلى الله عليه واله): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(2).
فوجب الاقتداء به وبمنهجه الأخلاقي الذي أصبح أصالة في العقيدة الإسلامية، وأسس لقاعدة التحلي بالأخلاق الإنسانية الفاضلة، والتخلي عن الرذائل والذمائم لقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)(3)، وهذه الآية الكريمة تحكي حقيقة ما يجب أن تصل إليه النفس البشرية في إنسانيتها وسلوكها، وعلم الأخلاق كما هو معروف أحد أقسام الحكمة يميز الفضائل عن الرذائل والتعرف على قوى النفس، فمثلاً الالتزام بالحسن من الأخلاق وتجنب السيء منها هي تزكيتها أي اتباع التقوى، أما في الدس والفجور مما جاء التحذير منهما، فهما خلاف طبيعة النفس البشرية يسببان لها القلق والخوف والمرض.
فالآية التي تقدمت، تبيّن أن سبحانه وتعالى يشير فيها إلى عظمة النفس وفخامتها، ويقول: يا أيها الإنسان، اعرف نفسك، لأنك سيد عالم الإمكان برمته، وما موجود فيه مخلوق لك، وأنت ثمرته، فاعقل ما نبهتك له، وقد ألهمتك حب الكمال.
وأكدت الروايات أن أفضل الطرق لمعرفة الله تعالى تمّر عبر معرفة النفس، وهذه المعرفة يقتضي فيها أن يتسامى الإنسان ويرتفع في سيرته نحو الحق.
سُئل رسول الله (صلى الله عليه واله) : ما الدين ؟ قال: حسن الخلق، وقال (صلى الله عليه واله): (تخلقوا بأخلاق الله)(4).
وقالوا في الخُلق: إنه هيئة في النفس راسخة، والرسوخ يشترط فيه أن يحصل باختيار الإنسان بواسطة التربية، والجهاد والتدريب، وبفضل العقل يُميّز الإنسان عن سائر البهائم، فمثلاً الذي يقمع لذة عاجلة بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب يسمى عاقلاً: لأن الإحجام عنها يكون بحكم العقل لا بحكم الشهوة.
وعليه وبهذه المقدمة المقتضبة نريد أن نصل إلى ذكر سلسلة من أمراض النفس، فنبدأ في هذا العدد (بالرياء).
الرياء إصطلاحاً: هو عبارة عن إظهار شيء من الأعمال الصالحة أو الصفات الحميدة للناس لأجل الاستيلاء على قلوبهم، أو للحصول على منزلة أو الاشتهار بينهم، كالسمعة التي هي من شجرة الرياء، وهذه الصفة قد تحصل بصراحة القول أو بالإشارة والكناية.
روي في الحديث الشريف :(كل رياء شرك(5)، وهو من أقبح الصفات، يؤدي بصاحبه إلى اضمحلال نور الإيمان من القلب: لأنه يجعل للشيطان تصرفاً في قلبه وليس الله تعالى.
وفي الحقيقة هذه الصفة الخبيثة تؤدي إلى الخروج من الدنيا بغير إيمان، كما جاء في الحديث القدسي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (قال عز وجل: أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل عمله، لم أقبله إلا ما كان لي خالصاً)(6).
الأسوأ عاقبة في عمل المرائين الذي يحصل في العبادات، أو في العقائد، أو في المعارف الالهية، فبعضهم يعتقد أنه مؤمن ولكن إيمانه نتيجة ريائه يكون مشوباً بالشرك الخفي، فيؤدي به إلى الكفر والعياذُ بالله، نعم إن عامة الناس عند ممارستهم المناسك والعبادات الظاهرية قد يقعون في الرياء، لأن الشيطان يتلاعب في قلوبهم ويسقي جذوره لديهم. ولأنهم لا يملكون سوى زاد الأعمال، عليهم أن يكونوا حذرين جداً من أن يظنّوا أن أعمالهم لله وبالحقيقة هي للشيطان، ولا يدرون أنهم مبتلون بحب الدنيا وهوى النفس، وحب الجاه، وحب الشهرة، والسمعة.
وللعرفاء مقولة: (ويل لبعض أهل الطاعة، والعبادة، وويل لأهل العلم، والديانة، لو يكشف لهم عن رياء أعمالهم سيرون أنهم من أهل الكبائر والمعاصي، وصحائف أعمالهم أشد سواداً من الكفار والمشركين)(7).
فقد يغفر الله تعالى لهؤلاء العاصين لعلمهم أنهم عاصون فيتوبوا، أما أولئك فقد تجعلهم غرور الأعمال يستمرون بجرمهم إلى وقت مغادرة الدنيا، فلا تحصل لهم توبة لأنهم لا يعلمون أنهم كانوا مرائين، فكأنه تعالى يقول لك: يا ليتك كنت من أهل الذنوب والمعاصي نادماً تائباً، أفضل من أنك منهم، وأنت لا تدري فتمتنع من التوبة، فمن الخدع النفسية توهمهم أن أعمالهم الصالحة خالصة، وتخفي عليهم النفس ذلك لعدم السعي لعلاجها، بل يعتقد هذا سلامة نفسه، وهو ما نطلق عليه مرض الغفلة الذي هو من الخطورة على الإنسان كونه من دوافع الشيطان، وهذا مرده إلى عدم إخضاع الأعمال والحركات والسكنات للمراقبة ومحاسبة النفس، كي يطهّر القلب من شوائب الرياء.
فمثلاً يبكي خوفاً من الله بحرقة في المحافل العامة، ولكنه في الخلوات مهما ضغط على نفسه لا تدفع عينه، وعليه أن يسأل نفسه ما الذي حدث؟
وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحب أن يحمد في جميع أموره(8).
أما الأمور العلاجية لهذا المرض الخلقي، فالإنسان تحت نظر الله، ويعلم عنه تعالى، وإرادته تكون قاهرة إذا ما أراد المراءات، فيجعلها وبالاً عليه، بل تقوده نفسه إلى أن يتصرف بما لا يليق، بتصرفات خارجة عن إرادته فيفضحه الحرص والتملق مثلاً أو يبان زيفه على عكس ما أراد من جلب الجاه والشهرة، وعليه لا ينبغي أن ينزلق إلى أوهام الضعفاء والقاصرين، حتى إذا كانت لفائدة على سبيل الفرض فهي تافهة ومحدودة ولا تستحق أن يسقط من عين الله ويهان، ويخسر رضاه ويتعرض لغضبه.
وهذا مما لا يرضى به عاقل، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه واله):( إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته : يقول الله عز وجل اجعلوها في سجين إنه ليس إياي أراد بها)(9).
وهذه من نتائج الخيانة للأمانة الإلهية بسبب الأوهام، أو مما اقترفه من أنواع التلون تجاه الآخرين فتصرف به خلاف مصلحته.
في حين أنه لا ينبغي أن يطلب باعماله أو يضمر فيها إلا الله تعالى، فيشمل بكرامات متعددة، وتعظم مكانته، ويجعله الله مرفوع الرأس وجيهاً في الدارين، من هنا تكون المجاهدة مطلوبة لخلوص العمل، وأن يوازن الإنسان أعماله بالعقل وأن يراقب قلبه ويحاسب نفسه.
ونسوق مثالاً آخراً: أنظر لكثير من الناس ممن يتحرك للحصول على قوى النفس، أو يريد التسلط عليها، أو يطبق خطوات في السلوك ليحصل على نتائج يبهر بها الناس، فهذا النوع من الجهاد غير محمود العاقبة، فيه طلب للقوة، ولفت الأنظار، وليس للوصول إلى مراتب الكمال الإلهية والآخرة.
فيكون عابداً للأنا وليس لله، وعابداً للهوى، والجاه والنفس والشهرة والترأس، فمثل هذا الموهوم الفاعل به الشيطان يستحيل عليه سريان المعارف الإلهية إلى قلبه مطلقاً، فيحسب على زمرة المنافقين رغم إسلامه وادعائه الإيمان.
وأخيراً يفترض أن يكون العاملون والسالكون جميعهم باحثين في قلوبهم وفي أنفسهم عن الله تعالى، الذي وحده المتصرف بالأشياء والأفعال لخيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(10)، وجاء في الحديث الشريف :(إن قلب المؤمن بين اصبعي الرحمن يقلبه كيف يشاء)(11).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القلم الآية/4.
2- مستدرك الوسائل:11/187.
3- الشمس الآية/ 8 و9.
4- بحار الأنوار: 61/ 129.
5- شرح أصول الكافي: 392/3
6- الجواهر السنية: 338
7- الأربعون حديث.
8- الكافي: 39/3
9- أصول الكافي:م2 ح7
10- العنكبوت الآية/69.
11- صحيح مسلم: 18/5.
نشرت في الولاية العدد 123