تأريخ المنارتين والإيوان الذهبي


أ.د. عبدالهادي الابراهيمي

المنارتان الذهبيتان:
هما عمودا نور يقعان على جانبي الإيوان الذهبي من الجهة الشرقية للحرم العلوي المطهر. قالت الدكتورة سعاد ماهر في «مشهد النجف»:(وتأريخ إنشاء المئذنتين وإن كان غير ثابت على وجه التحقيق، إلا أنهما من غير شك من الطراز الصفوي, أي أنهما يرجعان إلى عهد الشاه عباس، فهما من طراز البناء الأصلي للمشهد(1).
وفي سنة 1853 م زار النجف الرحالة الانكليزي لوفتس، وقال في مذكراته إنَّ أركاناً ثلاثة من أركان الصحن كانت تقوم فوقها مآذن ثلاث، كُسيت الاثنتان الأماميتان بالآجر المغلف بالذهب (الذي يكلف تذهيب الواحدة منها مبلغ تومان واحد، أو ما يعادل باونين استرلينيين)، وهي تؤلف مع القبة منظراً فخماً يعجز عنه الوصف. وكانت القبة الكبرى المكسوة بالذهب وهي تتوهج في نور الشمس تبدو وكأنها تل من الذهب يبزغ مابين البراري الممتدة من حوله[2] .
جاء في دليل العتبة العلوية المقدسة ما نصه: (تستند كل مئذنة على قاعدة ترتفع عن أرضية فناء الحرم بـ 2.4 م, والقاعدة متعددة الأضلاع مكسوة بالمرمر يبلغ قطرها 3م. ويصل ارتفاع المئذنة إلى 29م وهي على شكل أسطوانة يقل قطرها كلما ارتفعت, وفي ثلثها العلوي أحيطت المئذنتان بكتيبة فيها آيات قرآنية بصفائح ذهبية على المينا الزرقاء, وفوق الكتيبة توجد مقرنصات ذهبية بارزة ومتدرجة ذات شكل متناسقٍ وجميل، ثم تليها شرفة المؤذن التي يصل ارتفاعها إلى 2.25م وقطرها عند قاعدتها 1.8م وقطرها من الأعلى 1.25م وفيها 12 نافذة مفتوحة على جميع الجهات, ويعلو شرفة المؤذن اسطوانة رفيعة يصل قطرها إلى أكثر من متر واحد تقريباً، يبلغ طولها أربعة أمتار، وتنتهي بقبة ذهبية مفصّصة يعلوها عمود يتضمن كرتين معدنيتين مكسوّتين بالذهب, ويبلغ ارتفاع هذا العمود مع لفظ الجلالة 1.6م. وكل مئذنة من أعلى قاعدتها حتى قمتها مكسوّة بالصفائح المطلية بالذهب الخالص, ومعظم الاجزاء الذهبية ذات هيأة معينة، طول ضلع الصفيحة الواحدة 19.5سم, وقد حصل حساب عدد الصفائح الذهبية للمنارة الجنوبية فكان حوالي 2000 صفيحة لكل منارة[3].
من الجدير ذكره أنّه قد نُقش على كتيبتي المنارتين آيات من سورة الجمعة, إذ كُتب في كتيبة المنارة الشمالية المجاورة لمرقد العلامة الحلي: {قال الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}. وكُتب في كتيبة المنارة الجنوبية المجاورة لمرقد المقدس الأردبيلي: {فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْلَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ}.
كُسيت المنارتان بالذهب في عهد السلطان نادر شاه في عام 1156هـ/1743م, ويوجد فوق قاعدة كل منارة كتيبة من صفائح ذهبية مزخرفة نُقِش عليها أبيات شعرية تؤرّخ لسنة إتمام التذهيب, وهذه الأبيات كتبت باللغة الفارسية في المئذنة الشمالية, وبالعربية المئذنة الجنوبية.
تم ترميم المنارتين مرات عدة بفعل التضعضع وسقوط بعض الصفائح الذهبية. استعرض الشيخ جعفر محبوبة في «ماضي النجف وحاضرها» مجمل الاصلاحات التي طالت المنارتين فقال: (عقيب تذهيب «النادر» لهما حدث تضعضع وميل في بعض جوانبهما وسقط الصفيح الذهبي فأُصلح بأمر الحاج محمد حسين خان الإصفهاني وزير فتح علي شاه سنة 1236هـ كما ذكره البراقي. وأُصلحت المئذنة الجنوبية المجاورة لمرقد المقدس الأردبيلي سنة 1281هـ , قُلع ما عليها من الذهب وهُدمت إلى الأرض وأُعيدت على ماهي عليه اليوم وكان ذلك بأمر السلطان عبدالعزيز خان العثماني كما ذكره السيد البراقي والسيد جعفر آل بحر العلوم في تحفة العالِم…… وأُصلحت المئذنة الشمالية المجاورة لمرقد العلامة الحلي سنة 1315هـ بأمر السلطان عبدالحميد خان العثماني, قُلع ما عليها من الذهب وهُدم نصفها وأُعيدت على ما هي عليه اليوم, وكان الإنتهاء من العمل في عاشر جمادى الثانية سنة 1316هـ. وفي أوائل سنة 1367هـ قُلع منها الصفيح الذهبي جميعه وهُدم أعلاها وأُعيدت على حالتها السابقة وكان الفراغ من العمل آخر شهر رجب من تلك السنة. وفي شهر جمادى الأولى سنة 1352م قُلع الصفيح الذهبي عن المئذنة المجاورة لقبر المقدس الأردبيلي وهُدم أعلاها فقط وأُصلح وأُعيد إليها الصفيح الذهبي ونفقة العمل على الاوقاف) [4] .


الإيوان الذهبي:
يقع الإيوان الذهبي في الجهة الشرقية من الحرم العلوي المطهر وهو يمثل المدخل الرئيس للحرم ويبلغ عرضه 6.10م وارتفاعه 11م. أما منطقة فناء الحرم (الطارمة) فتقع بمحاذاة الإيوان الذهبي, وترتفع عن أرضية الصحن الشريف بمقدار20سم ويبلغ طولها 42م، وعرضها 7،50م، وهي مكسوة بالمرمر الأخضر[5].
يُعدّ الإيوان آية في الصنعة والنقش ورائعة من روائع فن العمارة الإسلامية، ومن المعالم البارزة والجميلة في المرقد العلوي المطهر، و اكتمل تذهيبه ونقش زخارفه في عام 1156هـ/1743م مع تذهيب القبة والمنارتين في عهد السلطان نادر شاه الأفشاري. وتوجد تواريخ عدة منقوشة في أماكن متفرقة من جدران الإيوان ولا سيما ما كُتب في الكتيبة العريضة التي تقع في أعلى واجهة الإيوان الذهبي وفي نهاية القصائد الشعرية التي توثق عام إتمام التذهيب المذكور.
تتوزع على جانبي واجهات الإيوان الذهبي الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة وقصائد شعرية باللغات العربية والفارسية والتركية. وتُشاهَد هذه المدونات متداخلة مع الزخارف بشكل متناظر ومتقن يبهر الناظرين. وهنا يجب أن نذكر انَّ الشريط الكتابي الذي يمتد على طول الجدار الشرقي ويعلو الباب الذهبي قد تضمن قصيدة بالتركية للشاعر الميرزا عبدالرزاق التبريزي جهانشاهي المتخلص بـ (نشئه) وقد كُتبت بخط ذهبي بارز على المينا الزرقاء, في حين كُتب في وسط الإيوان الذهبي على جانبي الباب قصيدة فارسية بحروف ذهبية بارزة للشاعر عرفي الشيرازي.
قام النظام البعثي البائد في بداية الثمانينات وبدافع طائفي وعنصري بقلع أغلب هذه المدونات وإبدالها بصفائح (صقيلة) خالية من أية كتابة. فضلاً عن ذلك فقد تضرّرت واجهة الإيوان الذهبي وأبوابه بفعل الأعمال العسكرية والقصف الهمجي الذي طال المرقد العلوي المقدس إبان الإنتفاضة الشعبانية في عام 1411هـ/1991م. وقد أُعيدت المدونات الى أماكنها الطبيعية من قبل الأمانة العامة للعتبة العلوية بعد سقوط النظام.
جاء في كتاب «تاريخ تذهيب المرقد العلوي المطهر» للدكتور عبدالهادي الإبراهيمي ما نصه: (وبعد زوال سلطة النظام البعثي في عام 2003م تولت المرجعية الدينية الرشيدة في النجف الأشرف مهمة الإشراف على العتبات المقدسة، وأصدر مجلس إدارة العتبة العلوية المقدسة قراراً نصَّ على: ( إعادة كل ما رُفِع ورفع كل ما وُضِع في زمن النظام السابق ولأغراض سياسية بعيدة عن قدسية وتاريخ العتبة المقدسة وفي أي موقع منها), وبناءً على ذلك قام المتخصّصون في مجال ترميم اللوحات والكتائب التاريخية من لجنة إعمار العتبات المقدسة في إيران بتجديد الكتائب التي تمت إزالتها وتخريبها في عهد النظام البائد, ومن حسن الحظ وبعناية إلهية عُثر على هذه المدوّنات وهي مرميّة في مخازن الحرم العلوي الشريف. وتم ترميم وتجديد الصفائح الذهبية المطعمة بالمينا الزرقاء الخاصة بشريط القبّة العلوية وأُعلن عن اكتمال العمل في 13 رجب 1430هـ الموافق 6 تموز 2009م. أما كتائب الإيوان الذهبي فقد تمت صيانتها وترميمها وطلاؤها وأُرجعت إلى أماكنها الأصلية ابتداء من سنة 2013م. ومن المناسب أن نذكر هنا قيام الأمانة العامة للعتبة العلوية المقدسة بإنجاز صيانة وتذهيب أطواق المنارتين الشمالية والجنوبية في عام 1433هـ/2012م[6] .
ومن الجدير بالذكر أنه تجري في الوقت الحاضر أعمال إعادة تذهيب الإيوان الشرقي وجوانبه والمنارتين ابتداءً من جهة اليسار بعد أن تم الانتهاء من تذهيب القبة العلوية المباركة.
يؤطر الإيوان ضفيرة مذهبة جميلة, ويوجد في أعلاه مقرنصات كبيرة تتدرج نزولاً إلى الثلث العلوي منه. ويتوسط الإيوان الباب الذهبي الشهير الذي نُصب في عام 1373هـ/1954م بمساعي حجة الإسلام السيد محمد كلانتر رحمه الله وبإنفاق من ميرزا مهدي مقدم وأبناء أخيه الحاج كاظم أغا توكليان مُقَدّم والحاج ميرزا عبدالله مقدم. وقد تم تصميم هذا الباب في إيران بمهارة وإتقان من قبل أمهر الصاغة يومئذٍ وهم كل من: الحاج محمد تقي الأصفهاني، والحاج سيد محمد العريضي الأصفهاني، ومحمد حسين پرورش الأصفهاني, فيما تم إنجاز الاعمال الخشبية للباب في العراق من قبل السيد كريم المرعبي الحلي والحاج حسن اليزدي[7] .
يعلو الباب الذهبي كُتب في إطاره قصيدة رائعة للشيخ محمد علي اليعقوبي تُؤرّخ نُصبَ الباب في عام 1373هـ مطلعها:
وبابٌ صِيغَ مِنْ ذهبٍ تجلّى وَجلّلَ نورَ قدس ليسَ يطفى
إلى أنْ يقول:
ولا يبقى مع التاريخ (إلاّ عليُّ الدرِ والذهبِ المصفّى)
يوجد تاريخان آخران كُتبا على مصراعي الباب، إذ نُقش على إطار مصراع الباب الأيمن بحروف ذهبية بارزة قصيدة السيد محمد جمال الهاشمي وهي:
طأطِأ الرأسَ فهو بابُ الخلودِ واخْشِع الطرف فهو سرُّ الوجود
إلى أن يقول مؤرّخاً:
ووفودُ الأملاك مذ أرّخته (لم تزل وُقّفاً ببابِ الخُلود)
أما إطار المصراع الأيسر للباب فقد تضمن قصيدة الشيخ عبدالحميد السماوي ومطلعها:
لمن الصروح بمجدها تزدان وبباب من تزاحم التيجان
وأرّخ نصب الباب بقوله:
حسبي إلى عفو الإله ذريعة حرمٌ يؤرّخ (بابه الغفرانُ)
فضلاً عن الباب الذهبي, يوجد بابان ذهبيان صغيران يؤدّيان إلى الرواق الشرقي للحرم المطهر وهما باب العلاّمة الحلي من جهة اليمين وباب المقدس الأردبيلي من جهة اليسار، وقد سعى أيضاً العلامة السيد محمد كلانتر إلى إنشائهما ونصبهما في عام 1397هـ/1976م. فقد كُتب في أسفل المصراع الأيمن لباب العلامة الحلي ما نصّه: (بسمه تعالى الحمد لله الذي أنعم عَليَّ ووفّق مسعاي في عمل هذين البابين الذهبيين لمرقد سيد الوصيين في أبدع صورة من حيث الفن والجمال, وأنفق على إنشائهما الموفق الحاج عبدالرسول الحاج محمد علي عجينة, فقد بذل من خالص ماله قربة لوجهه المقدس), وكُتب في أسفل المصراع الأيسر لهذا الباب ما نصّه: (وإظهاراً لولائه الخالص لأئمة أهل البيت وتم صنعهما في مدينة أصفهان على يد أساتذة الفن في محرم 1397, وأنا الراجي شفاعة آبائي وأجدادي الطاهرين السيد محمد السيد سلطان السيد مصطفى الموسوي كلانتر عُفي عنهم).
كُتبت قصيدة الشاعر عبدالصاحب عمران الدجيلي على إطار كلا البابين. أما مطلع القصيدة في باب العلامة الحلي فهو:
يوم الغدير ما أجلّك مطلعا أشرقت لم يترك شعاعك موضعا
في حين تضمنت باب المقدس الأردبيلي تكملة أبيات القصيدة وكان الإبتداء بالبيت الآتي:
هذا إمام الأرض حقاً والسما هذا إمام الدين والدنيا معا
الهوامش:
[1]. مشهد الإمام علي في النجف: 170.
[2]. موسوعة العتبات المقدسة, قسم النجف: 1/ 335.
[3] . دليل العتبة العلوية المقدسة: 82.
[4]. ماضي النجف وحاضرها:1/ 68-69.
[5].دليل العتبة العلوية المقدسة: 85.
[6] .تاريخ تذهيب المرقد العلوي المطهر: مخطوط.
[7] . مشهد الإمام: 1/ 204-205.
المصادر:
– مشهد الإمام علي في النجف وما به من الهدايا والتحف: سعاد ماهر. م/ دار المعارف, مصر, 1388هـ.
– موسوعة العتبات المقدسة, قسم النجف/ الجزء الاول: جعفر الخليلي. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, م/ بيروت, 1987م.
– دليل العتبة العلوية المقدسة: قسم الشؤون الفكرية والثقافية/العتبة العلوية المقدسة. م/ دار الرافدين, بيروت, 2011م.
– ماضي النجف وحاضرها: جعفر محبوبه. مطبعة الآداب, النجف الأشرف, الطبعة الثانية, 1958م.
– تاريخ تذهيب المرقد العلوي المطهر: عبدالهادي الابراهيمي. مخطوط.
– مشهد الإمام: محمد علي جعفر التميمي. منشورات المكتبة الحيدرية, مطبعة شريعت, قم, 1431هـ.

نشرت في الولاية العدد 125

مقالات ذات صله