علي وزاد الآخرة


بدري البدري

عَلِمَ الإمامُ أمير المؤمنين عليه السلام قُصر أيام هذه الحياة ورأى بعين البصيرة منتهاها وزوالَ نعيمِها وفناءَ من فيها، فلم تأخذ من فكره واهتمامه حيزاً أبداً ولم تُلفتْ انتباهَه زينتُها أو تجذبه حبائلُ مكرها، وإن عرضت عليه ما عندها من مادةٍ مُزخرفة غَرَّت الكثيرَ من أهلها وسلبت عقولَهم وإرادَتهم وصيَّرتهم أسارى فتَنِها ومكائدها.

تعامل عليٌ (عليه السلام) مع الدنيا بحذر، وأمضى أيامه فيها على عجلٍ ما أرادها وطناً ولم ينوها مستقراً، لعلمه أنه على سفر، فراح يُعد لسفره ما يصلح له من الزاد، وأيُّ زادٍ يصلح لدارٍ يطول المقام فيها، وهي دارٌ باقية خالدة لا تزول ولا رحيل عنها، إنه زاد عليٍ (عليه السلام) فهو يعلمنا كيف يكون وكيف نعده وهو القائل: مَنْ تَذَكَّرَ بُعْدَ السَفَرِ اسْتَعَدَّ.
فهو(عليه السلام) بنى معاملاته مع الحياة الدنيا على حقيقة ثابتة لا تتغير أساسها الزوال وأيامها معدودة، وأن الفناء والموت هما الحقيقة القادمة التي يجب أن يهتم بها ويستعد لها، وأن يقدم مقدمات الزاد ليوم البقاء، وإن كانت هذه الحقيقة غير سائغة لأكثر الناس وهم في غفلة عنها ومعرضين عن تهيئة أسباب الإقامة الهانئة في الحياة الباقية، أو هي حقيقة صعب قبولها على الكثيرين، ولعل من دواعي الصعوبة لديهم الخوف من ذكر لحظة الغياب عن الحياة التي أَنِسُوا العيش فيها، من ذكر كلمة الموت الذي هو فاصل ونقلة بين الحياتين الفانية والباقية، فذكر الموت له جنبتان أولاهما إيجابية والأخرى سلبية، فأما الإيجابية فذكره مع عدم الخوف منه أيّ مع الاستعداد لما بعده وتقديم المقدمات الطيبة لدارٍ يدوم نعيمها ولذتها وأنسها ليحظى صاحبها برضا ربه وعطائه الأبدي، وأما الجنبة السلبية فهي أن يذكر أحدنا الموت بشؤم أيّ لا يطمئن لما بعده من عطاء أولا يعتقد أو يشك به أو يعتقد به ويتخوف من ذكره لأن من عقيدته بالموت وما بعده أن يأتي بتلك المقدمات التي تسبب راحته وسعادته في آخرته، ولأنه لم يقدم لنفسه ولم يهيئ تلك المقدمات صار يتخوف من ذكر الموت فلا يخوض فيه وفيما يتعلق به حتى ينسى ذكر الموت أو يتناسى ومن الطبيعي عند ذلك أن يلازمه التماهل والتكاسل والابتعاد عن طاعة الله وسبيل العبودية فينساق نحو ملذاته وأهوائه وما توحيه له أفكاره المتناثرة المتلونة بالمزيد من عدم الالتزام والانفلات فيقدم على فعل المعاصي بلا وازع أو رادع من دين أو تقوى، ويفقد كل حاجز بينه وبين فعل الحرام بمختلف أشكاله، ويتعلق بالدنيا فيصل إلى درجة حبها والتمسك بها وبغض منغص الاستمتاع بها وبزخارفها وملذاتها فيصبح ذكر الموت عنده كالعدو الذي يبغض ذكره وأيَّ شيء متعلق به.
وحتى لا يبقى المرء طويل السبات والغفلة، فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) كعادته يذكرنا برحيلنا عن الدنيا وزوال الدنيا نفسها ويؤكد حقيقة السفر عنها وتركها وما فيها، ويشير إلى ذلك ببديع بيانه بالتشبيه بين السفر المقصود وسفر نتعرض له في حياتنا الدنيا بين حين وآخر.
بلا شك أن الانسان الذي يقصد سفرا معينا يعد عدة ذلك السفر وما يحتاجه فيه، وسفره قد يكون قريبا أو بعيدا كأن يقصد مرة مدينة قريبة على محل سكناه فذلك القصد لا يتطلب منه وقتا طويلا أو عُدة كبيرة بخلاف مالو أراد سفرا إلى محل بعيد عن بلده وهو يعلم أنه يمكث فيه مدة طويلة فعند ذلك عليه أن يهيئ عُدة تكفي لمدة بقائه فيه ويهيئ نفسه كذلك لقضاء تلك الفترة الطويلة وهو بعيد عن أهله ووطنه.
ونحن كل يوم نعيش حالة السفر في حياتنا الدنيا على مستوى الافراد والجماعات، وكذلك نرى سفر بعضنا إلى الآخرة أفراداً وجماعات أيضا وكل منا موعود به ولا عذر لقائل لم أعلم بموعد السفر أو لم أبلغ به، فالعلم قديم والبلاغ حاضر والسفر مستمر ولا تعذرنا الغفلة ولا تنجينا فوت المهلة معها ولا ينفعنا ندم التقصير بكسب الصالحات وتحصيل الزاد، قال الشاعر:

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كـمثلــه وأنك لم ترصد كما كان أرصـدا

فالجميع مسافر عن الدنيا وتاركها لا يشذ عن ذلك السفر أحد قط وهو بعيد ولا يشبه غيره من الأسفار فينبغي أن يكون زاده كبيرا بقدر بعده وطول مدة مكثه، وصورته ينبغي أن تكون حاضرة على الدوام وأن نتذكره كل حين ليكون الاستعداد له بما يليق به لازما، وما على المرء إلا أن يهيئ نفسه ويجمع أمره ويجهز حقيبة سفره لسفرة نودي فيها منذ الأزل – عُدةٌ أمانُها وجوازُ سبيلِها التقوى وزادُ الإقامةِ فيها ونيلُ لذائذِها ونعيمِها صالحاتُ الأعمالِ فيها- فتلبية ذلك النداء يبدأ بإتيانُ فرضٍ من الصلاة والصوم وغيرها من الواجبات، تمامها خلق من الدينِ كالصدقِ والوفاءِ والأمانةِ والمروءةِ والاخلاصِ في العمل، وترك سيئات الأخلاق، وخلف الوعد، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وإيذاء الناس وغير ذلك من تمام الزاد، والاقتداء بفعل الصالحين وسلوكهم عُلُو حَظ، وحب الوصي أميرِ المؤمنين والأخذ بسبيله ذلك نعم الزاد وخير العمل.

نشرت في الولاية العدد 125

مقالات ذات صله