فاروق أبو العبرة
من أمراض النفس الأمارة بالسوء الذي يعاب، ويعاقب عليه العبد ويزيل الإيمان, ويمحق الأعمال, ويمزق العلاقات, ويزرع الشك، والبغضاء, والشحناء، هو من أمراض النفس كما بينه الله تعالى في قوله:(حسداً من عند أنفسهم..)
إن الحسد حرام، و الله تعالى بريء منه، وهو شر كما في قوله تعالى: (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)(الفلق/ 5)، والحاسد ليفرح ويشمت كقوله تعالى: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا)(آل عمران/120)، وهو يثير الفتن في المجتمع، والأحاديث عن الحسد كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بهذا الشأن ومن قولهم عليهم السلام:(آفة الدين الحسد والعجب والفخر)،(وإن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب)(الكافي: 2/306)، وقال (صلى الله عليه وآله): (ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم: آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غل أو حسد للمسلمين) (نفسير القرطبي: 2/360)، وما إلى ذلك، والحسد يختلف عن الغبطة التي هي من صفات المؤمن أنه يريد للناس بقاء النعمة لديهم، ولكنه يريد مثلها لنفسه، وفيه قال رسول الله (صلى الله عليه واله):(المؤمن يغبط والمنافق يحسد)(رياض السالكين: 2/608).
إن جميع الأمراض الخُلقية إذا ما تفشت في وسط مجتمعي، فستعصف بقيم ومبادئ ذلك المجتمع، ومنها الحسد، عمل عليه الإنسان منذ بداية الخليقة، كحسد قابيل لهابيل فقال تعالى: (لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(المائدة/27)، ويعد هذا الداء من نتائج الابتعاد عن الله تعالى، وعدم القبول بعدل الله عزّ وجل أو في عدالة قسمته، فلو كانوا يرون أن الله عادلاً، لما امتدت عيونهم، وقلوبهم إلى نعم غيرهم، وقد نجد هذه الصفة الذميمة، تنتشر في المجتمع، ويبتلئ بها بعض المؤمنين، وهم لا يعلمون أنهم يمارسون الحسد، فيتمكن من سلوكهم .
فالإيمان ليس بالخطابة، والمطالعة، والمناقشة وإنما تصديق بالقلب، وكذلك جميع المفاسد الخلقية هي أيضاً تسكن القلب، فأيهما يكون المتحكم في سلوك الإنسان، الإيمان، أم المفاسد، وبما أن العلم هو من حظ العقل، فأهل العلم أيضاً حالهم حال من يسري إليهم الحسد، إذا لم يخالط قلوبهم الإيمان، وليس بالضرورة من يسلك أسلوب التودد، والمحبة، ينجو من مرض الحسد، فإن النفس الأمارة تدعوه لمعادات كل من ترجح كفته عليه بالعلم أو بالمال، أو الجاه، أو المنصب، أو الشهرة، أو الجمال، أو غير ذلك من الكمالات، والتقدم بأية فضيلة، حين يتصورها الحاسد أنها نعمة، فيمارس الحسد، وهو ما ابتلى به إخوة يوسف، حين كرهو أخاهم، وساءهم حب أبيهم له، فغيبوه؛ من هذا المنطلق يجب التفكر والمحاسبة، فالطباع متقاربة، فليتفقد العبد نفسه، ويخاف الله، ويفر من عار غضبه تعالى .
وهذا ما قاله رسول الله (صلى الله عليه واله):(دبّ إليكم داء الأمم قبلكم …. إلى أن قال: والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا)(الأمالي:344)، يريد بذلك رسول الله (صلى الله عليه واله) الإشارة إلى الإيمان أنه نور يقذفه الله عز وجل في قلب من يشاء، من المطيعين ليصبح موضع تجلياته تعالى، وقلب الحاسد لا تستقيم فيه هذه التجليات، لتعارضها مع ضيق صدره وظلام روحه وحزنه وكدره، فيعيش ساخطاً على ولي نعمته، وهذا الشعور من مسببات هذه الصفة الملعونة، فتبدو آثارها في كل كيانه- من باطنه، وظاهره- فنتعرف عليه من الغضب الذي هو فيه، ومن صفحات وجهه، وعبوسه، وهذا الذي يميت القلب ويطفئ نور الإيمان إذ لم يكن له أمل بالنجاة مطلقاً، في عالم الآخرة، فالحسد أضرّ به وقطع حبل الرحمة بينه وبين الله تعالى، فلم يجرؤ أحداً عندئذ أن يتقدم ويشفع لمن سخط الله عليه، فقال تعالى فيه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(المائدة/ 41)، وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): (ما أضمر الإنسان شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه) (نهج البلاغة:4/7)، وطالما أكدت الروايات على خطورة الحسد لأن النوايا السيئة إذا كانت في عالم الآخرة شديدة الظهور بالروح، فإن صاحبها يكون مخلداً في النار.
إن المعيار في أساليب الوقاية من الحسد، وإصلاح واقع النفس، ومنعها من التلوث، هو الدعاء والوعي بالظروف التي تسبب إخراج هذه الرذيلة من النفس بوقت مبكر أيسر بكثير من إخراجها بعد توغلها وتجذرها في الاعماق .
فبالدعاء ومجاهدة النفس ستهتدي إلى الحق، لأن نور المحبة قاهرة لظلمة النفس، ومزيلة عنها الكدر.
نشرت في الولاية العدد 127