سلسلة أمراض النفس (العجب)


سيد فاروق أبو العبرة

في بحوث سلسلة أمراض النفس، الأمارة بالسوء، التي ذكرناها سابقا والتي يعاب عليها الإنسان، ويعاقب عند الاتصاف بها، وصلنا الآن إلى صفة خبيثة مهلكة أخرى، وهي من الذمائم الخُلقية، ألا وهو مرض (العجب).
والعجب حسب أهل العلم: إن العبد يستعظم عمله الصالح، ويستكثره ويبتهج به، ويأخذه السرور، فيرى في نفسه أنه خارج عن حد التقصير، وهو ما زُين له سوء عمله، فرآه حسناً، وأنه يحسن صنعاً، فأفسد معارفه الحقة، وجميع صفاته الحسنة، واعماله الصالحة، وهذا ما سأل به موسى بن عمران (عليه السلام) الشيطان فقال:(اخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه، قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه)(بحار الأنوار:ج29/312)، فالعجب من الموبقات، لنسبة إحباطه الإيمان، وإبطاله العمل، بل ويكون مصدراً لكل كبيرة، يجر صاحبه، إلى الشرك والكفر، والعياذ بالله، أما منشأ قبح العجب هو أن المؤمن لم يؤد عباداته لأجل الله، بل لميوله الدنيوية وطلب احتياجاته الحياتية، والاعتناء برغباته، وأهوائه ليس إلا، وإذا ما أراد الله تعالى إدخاله الجنة فبفضله، ورحمته .
فخطورة العُجب أنه يؤدي إلى مفاسد مباشرة، وغير مباشرة كثيرة وصفات رذيلة أُخرى كالتكبر، والرياء، ويدعو إلى عقائد باطلة، وأعمال قبيحة، وأفعال سيئة فكل واحدة من تلك تكون سبباً لهلاك المتعجب بنفسه، وتطيح بأعماله كلها فمثلاً، يمنّ على الله تعالى، ويستغني عنه، ويعتمد على نفسه، ولا يلاحظ فضل الله عليه، وبسبب عمله القليل يظن حتى إذا عامله الله بعدله فملكاته يستحق عليها الثواب ويستوجب منه الرحمة وينبغي أن يعزه، ويعترض إذا ما أصابته نائبة، أو إذا ما ابتلاه بعوز مالي مثلاً، يتعجب أن الله يرزق غيره ويبتليه وهو ذلك العبد الصالح، التقي، الطاهر، من أهل المقامات، فيغضب في نفسه على التقديرات، بينما هو لا يتجرأ أمام الناس إلا أن يظهر رضاه، بما قسمه الله، وقد يصوغ لنفسه حالة، أنه من المحبوبين عند الله وأنه من المقربين له تعالى، وإذا ما أُتي على ذكر الأولياء أمامه، أو صورة من عمل السالكين المجذوبين، انفرجت أساريره، لاعتبار أنه منهم، فيبدي التواضع، أو ينفي عن نفسه بما يريد أن يثبت ذلك المقام لنفسه، وإذا ما ابتلى ببلاء، راح يعلن أن البلاء للعاملين، أو عندما يسمع كلمات أن الله يبتلي المؤمنين، ينشرح صدره، وهو لا يدري ما أكثر المبتلين من المنافقين والمشركين، أما في علاقة هذا المريض بالعجب مع الآخرين فيكون متكبراً عليهم، ومرائياً يرى أنه الأفضل من سائر الناس، ويسيء الظن بهم، وباعمالهم، ويصفها بالقبح ويرى أن الكل أقل منه، ولغروره يرى قبائح أعماله حسنة، وهو من البعيدين عن المعاصي، بل ويشعر أن رحمة الله حصراً له، ولأمثاله، وهو الناصر لدين الله، لما يبديه في المجتمع من نصائح، وارشادات، أو عندما يحضر الصلاة، والجماعة، وزيارات المراقد المشرفة، أو مجالس أهل الذكر والعزاء، فمن هنا تنشأ لديه حالة العجب هذه الآفة الكريهة، فيتطاول على العباد في سره، ويعامل الفقراء والمساكين على أساس المنّة عند مساعدتهم، أو عند إعطائهم الصدقات، فهذه مراتب بعضها أشد تدميراً من بعض، حتى قال في بعضها العارفون: أنها خفية ودقيقة فقد لا يتوصل الإنسان إلى اكتشاف نفسه، أنه من المعجبين بها، أو لا يدرك مدى عظمة الآثار السلبية لهذا الشعور، ما لم يعلم ويتنبه ويلتفت، ويفتش بصورة صحيحة عن العلة التي أدت به إلى مرض العُجب، فبوساطة طرق المعرفة به، وطرق اختفائه على النفس وبعد الجهاد، قد يتوصل إلى بعض المعالجة النفسية، لأنه بالواقع منشأ الاعمال الصالحة في عمل هذا المؤمن لم يكن نظيفاً منذ البداية، فابتلى بهذه الصفة الذميمة نتيجة غفلته عن إيحاءات الشيطان التي يقوم بها هذا الملعون بما يناسب حال كل مؤمن من اهتماماته الدنيوية، والدينية، فمثلاً إنه يدفع بهم إلى التزام الطاعات، أو يروج لهم القيام بالمستحبات، وله غرض إيقاعهم بالعجب، والمعجب لا يعلم أن بعض المبتلين بالمعاصي ليس لهم من السوء بمثل ما ابتلى هو بنفسه، فبواسطة عجبه بنفسه، يكشف أنه أسوأ ممن يرتكب بعض الكبائر، فلهذا نرى أن الله تعالى يشمل أولئك المذنبين برحمته، ويرسل المتعجب بإيمانه وطاعته إلى النار وهو ما قاله الإمام الصادق (ع):(إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب، ولولا ذلك ما ابتلى مؤمناً بذنب أبداً)، وقال(عليه السلام):(من دخله العجب هلك) . (الامالي:220)
في أغلب الأحيان هذه السلبيات تكون عادةً نتائج من اعمال الكافرين والمنافقين، والمشركين، للحجب الظلمانية السميكة التي تجعلهم لا يرون عيوب أنفسهم، وإلا لماذا يصل بهم العجب إلى هذه الدرجة من التوهم، والسرور بأنفسهم، وينعتون غير الملتزمين بالأمور الشرعية، بالمنفتحين وأهل الحرية والتقدم، وأما المستقيمون فهم المعقدون والرجعيون لأنهم يصلون، بل ويتهمونهم أنهم غير مدركين لتلك الخرافات لضعف عقولهم، فهؤلاء عندما يفكرون بهذه الطريقة المنحرفة، لا يعلمون أن تلك من عوامل تعاضد الشيطان، والنفس الأمارة المريضة، التي بسببها تجعل الذنوب هينة بتصورهم، وتسوقهم معاصيهم الكبيرة، تدريجياً إلى ما هو أعظم من تلك، فيستهينوا بالشريعة، وعلمائها ويعادون المؤمنين، ويأنسون ويفرحون بكل ما هو عظيم من مصائب الانحراف، ولا يعلمون أنهم خاضعين تحت وطأة هذه الصفة فيكون من الأخسرين اعمالا ، وهو الذي نبّهه عنه تعالى بقوله:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)( الكهف الآية: 103-105).
نعم إن أساس العجب من حب النفس، والذات، وإن كان حبهما فطريا في خلق الإنسان، ولكن العبد عليه النهوض، لاستصلاح الشرور النفسية، فهذه مشكلة كبيرة أن يبقى الستار منسدلاً، والنواقص تبقى ترافقه، فإذا انتقل على هيأته الحالية، فقد يرى أن أهل الكبائر، والذنوب قد شملهم العفو الإلهي بسبب ندمهم، أو بسبب ما لديهم من رجاء، ولا يشمله هو لأن عباداته وإيمانه لم تكن ذات قيمة، بسبب عجبه، ومنّه، حتى أصبحت أعماله هباءً منثوراً بل ستكون هي السبب في هلاكه، ودخوله النار .
ألم يقل الله عز وجل:( مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ)( النساء الآية: 79) .
فالمؤمن الحقيقي هو الذي يعتبر ويتواضع، ويخضع، ويعلم أن جميع أعماله الصالحة أنها عطية من الله، ومنّة منه تعالى عليه، وإن حصل منه سرور، وابتهاج في طريق طاعته، فهي مشوبة بالخوف لئلا يسلب منه التوفيق، بل ويكون حذراً، مشفقاً من زوال هذه النعمة، وطالباً من الله تعالى الازدياد، فلا يُعجب باعماله، أو يستعظم بها بل بالعكس يشعر أن الله تعالى إذا عامله بعدله فإن ثواب اعماله كلها لا تعادل شكر مفردة صغيرة مما أعطاه الله من النعم الكثيرة وتفضل عليه بالمواهب الجزيلة، وفي حديث له تعالى قال:(يا داود بشر المذنبين، وانذر الصديقين، يا داود بشر المذنبين إني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وانذر الصديقين لا يعجبوا بأعمالهم، فإنه ليس عبد أنصّبه للحساب إلا هلك)(الكافي :ج2/314)، فمن هذا ندرك أن عمل الصديقين والأبرار، على الرغم من أنهم مطهرون، فجميعهم هالكون في حساب عدل الله، فماذا نقول نحن المساكين الجهلة الغافلين أهل المعاصي والذنوب .
لذلك يجب أن يتوب العبد ويخجل، لأن الشيطان لا يجعل الاعمال الخالصة من الإنسان أن تصل إلى الهدف، ما لم يزين له ليحبط تلك الاعمال بسبب العجب .
فمن أعظم من الأنبياء، والأئمة (عليهم السلام)، ونرى أدعيتهم مشحونة بالخوف من الله تعالى والاعتراف بالتقصير، والعجز، إذ يقول رسول الله(صلى الله عليه واله) :(ما عرفناك حق معرفتك، وما عبدناك حق عبادتك)(الامثل: 15/147)، إن عالم الآخرة محل كشف الباطن، والسرائر، فيحشر الناس حسب اعمالهم فمثلاً على أشكال الحيوانات، إذا ما تجرأ أحدهم على ارتكاب المعاصي، فيفقد تدريجياً عزمه وإرادته، ولن يحشر على هيأة إنسان، لتجسد صور النفس، حسب ملكاته في حياته الدنيا، فتتشكل له صورة في الآخرة وتبعاً لذلك تظهر له تلك الصورة على شكل كلب، أو ذئب، أو أفعى، أو تمساح، أو أسد، وهذا واضح في قوله تعالى:(وإذا الوحوش حشرت)( التكوير الآية: 5) ، وقد تتشكل لروح الإنسان صور غريبة، بهيآت مرعبة، كما في قول الرسول الأكرم(صلى الله عليه واله):(إن بعض الناس يحشرون يوم القيامة على صور تكون أسوأ من صور القردة)، بعكس الطاعة وترك المعصية أن لها لذة وأُنسا لا يشعر بها من خالف وعد الله في الحياة الدنيا قبل نعيم الآخرة .
وهذه دعوة، لإعادة النظر في تصحيح مسار النفس، والويل كل الويل لمن قادته نفسه ولم يقدها هو بعقله .

نشرت في الولاية العدد 129

مقالات ذات صله