د. محمدعلي محمدرضا الحكيم
النية بمفهومها العام تعني حركة تنزع بها الإرادة لتحقيق أمر معين. والموضوع المباشر للإرادة الفاعلة هو العمل الذي تشرع في أدائه، وهذا العمل من حيث هو فعل إرادي لا يندرج تحت عنوان (الأخلاق)، إلا إذا كان المرء يهدف في صميم فعله ومن ورائه خيرا ما، يكون في نظره سببا لكينونته وراجحا على غيره، وتكون تلك الحقيقة البعيدة هدفا ينشده وغاية له من وراء فعله.
وذهب الشيخ المطهري في كتابه (العدل الإلهي) إلى أن لكل عمل بعدين، البعد الأول يتصل بالعمل من حيث الأثر الذي يحدثه في الخارج إن كان نافعا أو ضارا للمجتمع، أما البعد الثاني فهو نسبة ذلك العمل إلى فاعله، بما ينطوي عليه من مؤثرات أراد من خلالها الفاعل أن يجسد نيته ويحقق أهدافه. فعندما نحكم على العمل بمعيار البعد الأول، ننظر في آثاره الاجتماعية للحكم عليه بأنه نافع أو ضار، أما لو أردنا أن نحكم على العمل بمعيار البعد الثاني، فحينها لابد من تحليل فكر الفاعل ووضعه الروحي، للحكم على العمل من خلال معرفة الأهداف التي يتوخاها من عمله.
لقد ركز دعاة مذهب المنفعة على البعد الأول، فنظر (بنتام) إلى الفعل وطبيعة الأثر الذي يحدثه، واستعاض عن مفهوم اللذة ومفهوم السعادة بمفهوم آخر، يقوم على التأكيد على المنفعة العامة بدلا عن الاقتصار على المفاهيم السابقة التي تركز على خير الفرد، بمنظور يخلق نوعا من الأنانية فيغلب منفعته الخاصة على منفعة الآخرين، فيما ربط مذهب المنفعة العامة بين خير الفرد وخير الجماعة، فالمحور الذي يدور عليه هذا المذهب هو المبدأ القائم على تحقيق أكبر قسط من الخير لأكثر عدد من الناس. وقد حاول (جون ستيوارت مل) بعد ذلك أن يقيم المذهب على أسس تجريبية متينة، فوضع جدولا بالمنافع وحدد معيارا للمفاضلة والترجيحات، في محاولة تقربه من مناهج العلوم التطبيقية.
والتاريخ أيضا يحكم على الأعمال في بعدها الأول، إذ هو يطلب عملا ضخما يؤثر تأثيرا نافعا للمجتمع، فيحكم عليه حكما إيجابيا ويكيل له المديح والثناء. فعندما يؤسس شخصا مؤسسة اقتصادية أو ثقافية أو صحية تخدم المجتمع، فإن مثل هذا العمل في نظر التاريخ وفي معيار النظر الاجتماعي عمل (خير)، بما يقدمه من فوائد تعود إلى المجتمع؛ مع غض النظر عن هدف الفاعل من خطوته هذه، سواء كان هدف الشخص من ورائها الرياء والسمعة أم كان هدفه منها الخير ليس إلا. والأحكام الاجتماعية والتاريخية بحق الأشخاص تجري على وفق هذا المعيار ولا تعتني بنياتهم، وعندما يسجل التاريخ المنجزات الإنسانية لا يسأل عن النوايا والأهداف، وينظر إلى العمل الظاهري ويحكم عليه بالخيرية.
أما لو أردنا النظر من زاوية البعد الثاني فإننا لا ننظر إلى الآثار الخارجية والاجتماعية للفعل بقدر ما نلحظ نوعية ارتباط العمل بذات الفاعل، وحينئذ سوف لا يكون كافيا للحكم على العمل بأنه خير من خلال النظر إلى آثاره، وإنما يتوجب هنا البحث عن نية الفاعل وأهدافه التي يتوخاها من عمله، فلو كانت نيته حسنة وغايته الخير وأدى العمل ببواعث سليمة، حينها يحكم على عمله بالخيرية.
قال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (الملك:2). ولم يقل (أكثركم عملا) أو (أكبركم عملا)، لأن قيمة الفعل تكمن في حسنه وليس في أمر آخر.
وفصل الدكتور دراز في كتابه (دستور الأخلاق في القرآن)، فرأى أن أي قرار يتخذ بعد تأمل لابد للنية من نظرتين إحداهما تنصب على العمل والأخرى تنصب على الغاية، هاتان النظرتان للإرادة هما موضوعان لعلمين مختلفين. ففي الوقت الذي يركز القضاة على الأولى، يؤكد الأخلاقيون على الثانية، لا لأن الأولى لا تؤثر في العمل، إذ هي شرطه الأولي الذي يجعل الفعل مقصودا، ويميزه عن فعل الساهي أو المجنون أو النائم، الذي يكون محايدا لا يمكن انطباق الأخلاقية عليه سواء كان الحكم سلبيا أم إيجابيا. وإنما لأن الأحكام الأخلاقية تقوم على الثانية. فالنية بمعناها الأول لا تفعل أكثر من أن تمنح الفعل حق الوجود والصيرورة، فيما أن الثانية تجلب له استحقاقه من القيمة.
فالواجبات الاجتماعية بنظر الشرع يجب أن تأخذ مجراها، من دون النظر إلى حال الأفراد حين الإتيان بها، بل قد تفرض الدولة وهي الهيئة العليا للمجتمع تلك الواجبات على الأفراد لكي تسود العدالة بين الناس. وقد يقال إن ذلك يكشف عن مطالبة الشرع للأفراد والجماعة بإيجاد الواجب وتحقيقه بأية صورة كانت، فما هو الفارق بنظر الشرع إذن؟ وكيف تتحقق الأخلاقية؟ ونجيب بأنه علينا التمييز بين حالتين للمكلفين حين أدائهم للواجب، الأولى تتطلب منه القيام بالواجب من دون النظر إلى بواعثه، وإنما هي ناظرة إلى أداء الواجب وعدم ثلمه، الأمر الذي يرفع عنه حالة التقصير والمحاسبة الاجتماعية بنظر الشرع، أما حالة المكلف الأخرى التي يأتي فيها الواجب طوعا وبنية خالصة من دون أية شائبة ذاتية أو خارجية، فإنها توجب نوعا من القيمة الأخلاقية. فالأخلاقية لا يمكن أن تضفى على أي عمل إذا لم يكن شعوريا وإراديا وانطوى على خلوص في النية، فيما نجد أن التكاليف الاجتماعية تستوفى ببعض الشروط الموضوعية التي تتعلق بالزمان والمكان والكيف والكم، حتى لو تحققت صورته من دون علم أو إرادة أو نية.
ويصرح القرآن الكريم بشرط الإيمان (الأخلاقية)، بأن يقبل المرء باختياره جميع أوامر الشريعة ونواهيها من دون تردد وأن يسلم نفسه لذلك. قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء:65). لقد اختارت الآية الكريمة القضاء كمحك واختبار لحالة التسليم للموقف الشرعي الذي يعكس بصدق حقيقة الإيمان، وذلك بنظر السيد محمد باقر الحكيم -دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة-ج1- يرجع إلى أن موضوع القضاء موضوع معقد لأنه يرتبط بالمنازعات والخصومات، وغالبا ما ترى كل جهة من أطراف النزاع أن الحق إلى جانبها، ومن ثم تصبح عملية التسليم لحكم القاضي عسيرة، وتزاد الأمور تعقيدا حين يكون حكم القاضي على خلاف الحق في الواقع، ومع ذلك يراد من صاحب الحق التخلي عنه والانصياع للحكم، لأن القضاء قد لا يكون متطابقا مع الحق الواقعي، إذ يعتمد على البينات والشهود والأيمان، التي قد لا تصل بالقاضي للحكم بالحق الواقعي.
وهذه الحالة تجري حتى لو كان التقاضي بين يدي المعصوم، فقد ورد عن الرسول (ص) -وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة/ج1- تحذيره للمسلمين بقوله: إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا، فإنما قطعت له به قطعة من النار.. . وفي هذا النص دلالة على الحد الفاصل بين القانون والأخلاق، فمن خلال استماع القاضي إلى البينات يتوصل للحكم -على الظاهر- وبذلك ينتهي دور القانون، ويبدأ مجال الأخلاق بتحذير المسلمين من مغبة إخفاء بعض الدلائل، لأن هناك حساباً إلهياً على الباطن وما تخفي الصدور.
وننتهي مما تقدم إلى حديث ذكره المجلسي -بحار الأنوار/ج67- اختصر به النبي كل الموضوع حيث قال (ص): (إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى…). وعادة ما يذهبون إلى أنها تعني أن قيمة الأعمال تقدر بنواياها، ولكن معناها الأعمق هو أن الاعمال لا توجد أخلاقيا إلا بالنوايا، فقد ذكر الشيخ هادي النجفي -موسوعة أحاديث أهل البيت/ج11- حديثا ورد عن الامام الصادق في تفسير قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (الملك:3) حيث ذهب إلى أنها تعني أيكم أصوب عملا، وأن الإصابة هي النية الحسنة الصادقة، وأضاف (عليه السلام) أن النية أفضل من العمل، ألا وإن النية هي العمل.
وفي الواقع لا يمكن تصور فعل إرادي من دون نية، فطالما كان الأمر أمر نشاط تجب ممارسته، فإن هذا النشاط لا يمكن أن يكون إلا إراديا، ولن تكون له الصفة الأخلاقية إلا إذا كانت الإرادة قائمة على الطابع التكليفي لهذا النشاط. فالأخلاقية والنية صنوان لا ينفصمان.
علاوة على أن النية أفضل من العمل، من حيث إن كل نشاط إنساني بما فيها ذلك المطابق للشرع، هو في ذاته نشاط مبهم أو محايد أخلاقيا، فيمكن أن يرتدي وشاح القداسة أو الدنس، الطاعة أو المعصية، الحسن أو القبح، كل ذلك تبعا للباعث الذي يأتي به؛ ومن هنا كانت النية بهذا المنظور هي التي توجه العمل، الوجهة الخيرة أو الشريرة، وهي التي تمنحه القيمة سواء كانت إيجابية أم سلبية. وقد ذكر المازندراني -شرح على أصول الكافي-ج8- أن أحد وجوه تفسير قول الرسول (ص): نية المؤمن خير من عمله، هو: أن النية روح العمل، والعمل بمثابة البدن لها، فخيرية العمل وشريته تابعتان لخيرية النية وشريتها، كما أن شرافة البدن وخباثته تابعتان لشرافة الروح وخباثته.
وعلى هذا يمكن أن يدخل وصف القرآن الكريم لأعمال الكفار بالسراب الذي لا قيمة حقيقية لها لأنها ظاهرية وخداعة، لكونها جاءت لأهداف وضيعة فردية ومادية، قال تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) (النور:39).
إلى هنا نخلص إلى أن النية الحسنة شرط في صحة انطباق الأخلاقية على أي عمل، وأن الحركة اللاشعورية واللاإرادية التي تخلو من النية، أو العمل الشعوري والإرادي الذي ينطوي على نية ولكنه لا يستهدف الخضوع للتكليف الشرعي، وإنما يأتي لأغراض طبيعية ودنيوية، كل تلك الحالات لا تستوفي شروط الأخلاقية والعمل الصالح.
نشرت في الولاية العدد 130