الناس فيما بينهم يتعايشون ويقتسمون الأرزاق، فهم بين كاسبٍ يكابد عناء الدنيا ومرارتها لأجل الحصول على ما يتقوّم به أمر معاشه من مطعمٍ وملبسٍ وغير ذلك مما يسدُّ به حاجته ومن تحت إعالته، وبين ثري توافرت بين يديه مؤن الحياة بألوانها المختلفة ويرى نفسه قد كُفي مؤنة عيشه ومن يعول، وكلا القسمين محتاج على الدوام في سدِّ نقصه إلى الغني المطلق، فالله تعالى وحده الرازق الذي يهب الكاسب رزقه فإنما هو ساع وتقدير العطاء والرزق على الله عز وجل، ومن يرى في نفسه الثراء فإنه عَرَضٌ من الحياة الدنيا قد يزول ويصبح أو يمسي طالباَ لقمة خبز يسدُّ بها جوعته أو قطعة ثوب يستر بها عورته
فالجميع من هذه الناحية فقراء محتاجون لا يملكون ما فيه غناهم إلّا أن يغنيهم الله من فضله ولأنّ النعم متعرّضة للزوال وضمان بقائها الشكر، قال تعالى في الآية السابعة من سورة إبراهيم: (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيْدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيْد)، لذلك على المُنعَمِ عليه المحافظةُ على دوام النعم واستمرارها، وهي لا تكون إلّا بوساطة السنة الإلهية المبنية على طرفين مرتبطين مع بعضهما بملازمة الشكر للزيادة فمتى توافرت النعم على العبد وأردفها بالشكر حصلت الزيادة وهي بمثابة الوعد الإلهي والله لا يخلف وعده.
وبوساطة الفيوضات الربانية غير المتناهية نعلم أن عدَّ نعم الله تعالى لا حصر لها وذلك بينٌ جليٌ من قوله جل شأنه في الآية الثامنة عشر من سورة النحل: (بسم الله الرحمن الرحيم وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (النحل/18).
فقد منَّ الله عز وجل على الإنسان بنعم متعدّدة ومتجدّدة يعجز الإنسان عن تعدادها؛ لأنّ فيها روح التجدّد كل آن وهي من الكثرة بمكان حيث لا يمكن إحصاؤها، وهذا يعرفه المرء بلا تكلّف نظر أو تدبر فكر لأنّه من الدليل الملموس والمشاهَدِ الذي يُستشعرُ بالحسِّ بأنّ المتفضل بالنعم ابتداءً والواهب للعطايا وكل ما في الوجود من حياة وغيرها هو الله تعالى.
ومن هنا يرشدنا أمير الشكر وسيد البيان عليٌ(عليه السلام) إلى حكمة هي غاية في صفة العبد الشاكر أنْعُمَ الله بقوله: (لو لم يتوعد الله على معصيته، لكان يجب أن لايُعصى شكراً لنعمه)(نهج البلاغة 4/17.
فالإمام (عليه السلام) بلسان المشفق الناصح المرشد، يضع بين يدي اللبيب حكمته ويريد منها إنّ على الإنسان أن يزجر نفسه أولاً عن عمل المعاصي وينتهي عن فعلها؛ لأنّها مبغوضة بنفسها ولا يليق به إتيانها ولا يتناسب مع مقام العبودية أن تصدر منه بعذر أم بغير عذر.
وبيان حكمة الإمام(عليه السلام) لزوم شكر الله المنعم جلَّت قدرته فإنّ خالق الحياة والمنعم بمؤن العيش فيها، على اختلاف النعم أهلٌ للشكر بكل ألوانه وأشكاله ومظاهره، فاللسان له مظهر في الشكر وهو حالٌ من القول، والأفعال وتصرفات الإنسان صورة من الشكر، وقد يكون الانتهاء وزجر النفس عن ارتكاب المعاصي لونا من الشكر فيكون الكف صورة ومظهرا من مظاهر شكر الكريم جلت عطاياه.
أمير الشاكرين يدعو بكلمته إلى اجتناب المعاصي والنأي عن كل عمل لا يرضي الله سبحانه، إذ يسوق(عليه السلام) كلامه كدليل عقلي يدركه الكل ويوافق عليه ويستوعبه عامة الناس وما ذلك إلا لوجوب شكر المنعم.
يفرض(عليه السلام) في حكمته وجوب الشكر لله على نعمه فرضين ويبين ذلك في منطوق كلمته: (لو لم يتوعّد الله على معصيته)، فالمنطوق يفرض عدم وعيد الله على معصيته ومفهوم الكلمة يبين الفرض الثاني وهو إنّ وعيد الله على المعصية حاصل، وهو ما أتت الرسل بتبليغه عن الله تعالى بتحريمهم المعاصي.
ومنذ مجيء المرسلين ودعوتهم إلى الله عرف الناس أن المتعدي لحدود الله المتجاوز عليها عاصٍ لله مخالف له في أحكامه، وأن فعله يدينه ويجرّمه.
ومن هنا فقد أصبحت المسألة واضحة لكل من نظر فيها نظرة سطحية لا مَنْ تمعن فيها محققا، إذ إن الله تعالى خالق الخلق ومبتدعه ومخرجه بأبهى صوره، وهو المتفضل على عباده المنان بنعمه عليهم الحنان إليهم بجزيل عطاياه ونعمه فهو المعطي عباده بلا سؤال وهم في عطائه سواء من يسأله ومن لم يسأله، وهو الكريم في منحه المغني عائلهم الرازق من استرزقه الجواد بفضله، صفته الكرم وسجيته الجود بابه مفتوح للسائلين ورزقه عموم للمطيعين والعاصين.
بجميل الصفات عرف الإنسان ربه، وبديع المنح والعطايا وألوان النعم والأرزاق مَنَّ الباري عز وجلَّ على عباده، وعظيم البركات وقضاء مختلف الحاجات أحسن الله إلى خلقه، فالله حاضر في كل مكان وشاهد على كل زمان يسمع مناجاة المخبتين من عباده وأنين التائبين منهم فيعاملهم بلطفه وواسع كرمه وجوده فيرحم عبرات الباكين وطول حزن المنيبين ويحب التوابين ويقبلهم فكل ينال حظ الرحمة والعطاء والعفو والقبول، فجلَّ الله في ملكوته من خالق ما أرحمه ورحمن ما أوسع رحمته ورحيم ما أعطفه، ووجب الشكر له ما قدَّر لعباده وما دبَّر متى توافرت النعم على العبد وأردفها بالشكر حصلت الزيادة وهي الوعد الإلهي والله لا يخلف وعده.
نشرت في الولاية العدد 130